نزهة بوعزة
باحثة مغربية
عندما نتكلم عن التطرف الديني؛ فإنّنا نثير إشكالية التعايش؛ إذ يفرض التطرف بالضرورة شكلاً أو توجهاً شاذاً، لا يسمح بإمكانيّة إيجاد أرضية مشتركة، تقوم على التعدد لا النفي، ومن هنا تكمن ضرورة التساؤل: كيف يمكننا أن نتجاوز مرحلة التشدّد، أو ما أفرزه التيار الديني المتشدّد في راهننا؟ هل الطائفية موجة عابرة، أم بنية هوياتيّة متأصلة فينا؟ هل بالإمكان بناء مجتمع مغاير، يطرح مفهوم المواطنة بعيداً عن التشدد الديني والطائفي؟ وهل يمكن أن نتجاوز التطرف بتشدد معاكس؛ أي بتضييق الخناق على هذه الموجات، ألن يخلق ذلك في المقابل تشدداً أكثر فتكاً؟
ليس مطلب إثارة الموضوع استبعاد الضرورة التديّنيّة لدى المجتمع، بقدر ما هو قراءة نقديّة لما آل إليه وضعنا التديني، فإذا انطلقنا مما نعيشه اليوم، فقد نلحظ موجة منظّمة، ليست بالهيّنة، ضد التيارات السلفيّة، وهو أمر ناتج عن ما مارسته هذه التيارات من عنف باسم الدين، وهو ما اختصت به على العموم مؤخراً البينة الإعلامية، المدعومة من التوجه المعاكس لهذا التيار، التيار الذي يؤسس لخطابه انطلاقاً من مفهوم العلمانية/الحداثة/النهضة/التنوير، وهنا نشير إلى أنّ هذه الحرب الباردة لن تطفئ شمعة التيارات السلفية، بل ستخلق تطرفاً آخر، يستبطن عداء ناتجاً عن الإقصاء، فنكون بذلك قد خلقنا نوعاً من التطرف عبر إقصاء التطرف؛ فالإقصاء يخلق نوعاً من الإحساس بالمظلوميّة، التي تدغدغ مشاعر المريدين، وترفع بالتالي أسهم المتطرفين، الأمر أعقد من ذلك، فبذور تطرفنا تنخر بنيتنا التكوينية؛ الأسرية، المجتمعية، التعليمية، البنيات الموازية (المدنية)، البنية الفقهية، البنية السياسيّة التي تركن هذا التيار إلى حين استخدامه؛ لمواجهة تيارات معاكسة له، ومن هنا نكون أمام تطرفين؛ تطرف يذهب بالنص الديني إلى أبعد مما هو عليه (التطرف/التشدد الديني/السلفية)، وتوجه يطالب بخروج الدين لتحقيق مواطنة مدنية (العلمانية)، وهو ما جعل كل طرف يستعين بآليات هجوميّة، وهو وضع أبعدنا عن إيجاد أرضية توافقيّة؛ لتجاوز عملية شد الحبل، والمطلبان معاً لا يشيران إلى معقولية المطلب، بقدر ما يستجيبان إلى تحدٍّ ظرفي للوضعية التي نعيشها، هذا التحدي الذي يقوم على بنية لغوية استعارية، لا تستجيب لواقع الأمر، في حين أنّ التطرف؛ صورة تعبر عن سنوات من التهيئة الاجتماعيّة المستترة. فما السبيل إذن لخلق أرضية توافقيّة؟
لا يتأتى التغيير بشكل سريع، وإلّا نكون أمام مغالطة أخرى تستهين بما نحن عليه، الأمر يحتاج إلى إعادة تهيئة الوعي الديني الجماعي.
تمثل هذه النقط محاولة بسيطة؛ لتسطير كيفية تجاوز التطرف الديني، وهنا لا أقول محاربة؛ لأنّ ألفاظنا تؤسّس لعداوة وهمية، تهدم البناء قبل إمكانيّة تأسيسه:
– اعتماد الأرضيّة الدينيّة في الدعوى “لحب الحياة”؛ أي استدعاء النصوص والأحاديث التي تثمن قيمة الحياة/ التعايش/الاختلاف، مادام أنّ التطرف هو نفي للحياة، من خلال حصر الدين في تصورات عقابية، لا تستجيب للطبيعة الإنسانيّة، وغير ممكنة التحقق، بل تلبس الإنسان صورة تمويهية تغطي أو تزيف طبيعته.
– التصالح مع موروثنا الديني، عبر رفع القداسة عن مجموعة من التصورات، التي ارتبطت بسياقاتها السوسيوسياسيّة، ورفع القداسة يمنحنا القدرة على التعاطي مع النصوص، بالمرونة التي تجعل من حقبة الرسالة حقبة انطلاق تمكننا من التجاوز؛ إذ لا تمثل المرحلة الأولى للإسلام مرحلة نهائيّة وجب إعادتها والاقتداء بها؛ بشكل يخرجنا من زمنيّتنا، ويرفع بالتالي جدوى تجربتنا التاريخية، بل اعتبارها بداية وجب التأّسيس عليها، مع إمكانية تجاوزها.
ومن هنا نعيد ترتيب زمنيتنا الهوياتيّة، بمعنى عوض أن نسير ورؤوسنا متجهة نحو الوراء، وجب تعديلها نحو الأمام؛ إذ إنّ جدوى تمسكنا بالتراث الديني، هو إخراج أفضل ما فيه، وأفضل ما فيه هو تفضيل قيمة الحياة، والحياة في صيغتها الدنيويّة؛ تتأسّس على مطالب مدنيّة ولّدتها السياقات التاريخيّة؛ لأنّها ترسم تجربتنا التاريخيّة مع الراهن، والراهن لا يقبل خطاب الطائفيّة والانغلاق داخل بنية متشابهة، ومن هنا تكون الحياة المدنيّة؛ هي مطلب ديني قبل أن يكون دنيوياً.
– رفع اللّبس عن مجموعة من المفاهيم، التي تخلق نوعاً من المغالطة، وتزيد من حدة التشدّد: ومنها مفهوم العلمانية، الذي لا يحيل حتى في سياقها الغربي على دلالة “المواجهة/ أو نفي الدين/استبعاد الدين، وهي دلالة تحمل الطرف الآخر على رفضها قبل استيعابها، كما أنّ المطلب القائم على تحقيق المواطنة خارج السياق الديني، ربما هو مطلب لا يستقيم؛ إذ وجب التأّسيس له انطلاقاً من تاريخنا، حتى وإن استلهمنا الإطار المركزي من الفكر الغربي.
*أكاديميّة مغربيّة، متحصلة على درجة الدكتوراة في الفلسفة
نقلاً عن حفريات