عبدالله عودة الغبين
هل سبب المشاكل الفلسفية المعرفية هو نقص المعرفة أو العوائق اللغوية في إيصال الفكرة الفلسفية أو المعرفية من الملقي للمتلقي؟. فيلسوف اللغة والمنطق والرياضيات الألماني فتغنشتاين يرى أن مدار المشاكل الفلسفية هو العائق اللغوي، وأن من يريد معرفة الحقيقة فعليه معرفة السياق التاريخي والتركيب للجمل والكلمات لتتجلى له الحقيقة. على النقيض قبله بفترة طويلة الفيلسوف والعالم الألماني ليبنتز- وهو من ابتدع رياضيات التفاضل والتكامل تزامناً مع نيوتن- يرى أن اللغة مضللة في وصف العلوم لذا يجب استبدالها بالرموز والرياضيات.
علوم الحاسب الآلي تتجنب في خوارزمياتها اللغة، وكذلك تتجنب أي معضلة لا يمكن حلها بالرياضيات والمنطق، فهي محصورة في منطق خوارزمي رياضي بحت يعطي نتائجه بناء على الرياضيات ويكتب بلغة رمزية بحتة تستطيع أن تضع صورة رقمية ثنائية بين الصفر والواحد (مرور التيار وتوقفه) لحركة الكهرباء في الدوائر الكهربائية داخله. ومع ذلك فالحاسب الآلي لا يستطيع أن يتعامل مع تلك المسائل الرياضية التي تعتمد على الحدس، وهو ميزة بشرية لا يستطيع الحاسب أن يتمكن منها مثلها مثل ميزة الوعي أو مفهوم تعابير اللغة. وعند النظر في جانب القصور لدينا – نحن البشر – نجد قصوراً في العقل، وقصوراً في إدراك الحواس كما يراه إيمانويل كانت، كما نجد فيما حولنا قصوراً في اللغة، وقصوراً في الرياضيات والمنطق، وقصوراً في قدرة الحاسب الآلي والآلة؛ وما يمكننا من أن نحوز على جزء من المعرفة هو قدرتنا على ألا نتجاهل أوجه القصور البشرية والعلمية وقصور الآلة عند تفكيرنا.
يمكن للحاسب أن يقوم بعمليات معقدة ويتجاوز فيها قصور العقل وقصور الحواس في إدراكها للثوابت والمتغيرات من حولها من خلال بناء أجهزة حوسبة كمومية وتوفر البيانات الضخمة، فتقوم بمعالجتها بطرق فائقة السرعة لكن هذه الأجهزة المستقبلية والتي تقوم بتطويرها شركات الحاسب والبرمجة حاليا تبقى مفتقدة – مهما كانت قدراتها – لمفهوم وشعور اللغة والحدس والوعي والغريزة. غرائز وميز مثل الحب والرحمة والحدس والإيمان، ومكامنها كالعقل والروح والقلب تبقى بعيدة عن التفسيرات العلمية المنطقية الظاهرية.
وفي تأريخنا أمثلة كثيرة تدل على هذا التنبيه على هذا القصور، كقول سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه”. هذا الفهم العميق لحدود العقل، وأن الإيمان المطلق يتجاوز حدوده القاصرة يرسخ أمراً جوهرياً في كنه الاعتقاد ومطلق التسليم لله عز وجل مع إقرار بقصور في عقولنا. لكن هذا لا يعني البتة عدم إعمال العقل والتفكر، فالعقل وهو منشأ التفكير والتمييز والإدراك والفهم، وهو السمة التي ميز الله بها البشر وشرفهم وكرمهم بها عن بقية مخلوقاته. وقد جاء ذكر العقل ومشتقاته ومرادفاته في أكثر من ستين موضعاً في القرآن الكريم، بل قد قرن الإيمان بالتفكر في قوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار).
ومن قواعد الشريعة أن العقل هو مناط التكليف، بمعنى أن غير مكتمل العقل كالطفل أو ناقصه كالمجنون يتعذر تكليفه ولا ملامة عليه في فعله، فالتكليف أمر رباني ولا يمكن أن يكلف به إلا من له عقل. أمام قوة العقل وقصوره في ذات الوقت، وقوة العلم وقصوره، وأسرار الروح وغموضها، والعقل العاطفي وتقلباته، وقدرة الحواس ونقصها، وسعة اللغة وقصورها يسعى الإنسان لإدراك جزء من المعرفة كمن غمس يده في المحيط فلينظر بما يرجع من مائه؟!
نقلاً عن “العربية”