د. هيثم الزبيدي
الخبر الذي يشير إلى مغادرة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لسلطنة عمان أكثر تكتما من خبر وصوله مسقط واستقباله من قبل السلطان هيثم بن طارق. الإطار الذي وضعت فيه الزيارة هو “خاصة”، وتم تسريب ما يفيد بأن الأمير محمد بن سلمان قضى بعض الوقت في رحلة استجمام على يخت سلطاني. لا شيء يمنع بالطبع من زيارات المجاملة. القادة في بلادنا بشر، يحتاجون بدورهم إلى استراحة وإجازة “خاصة”، لولا بعض المعطيات الإضافية التي أحاطت بالزيارة وتجعل من الزيارة أكثر من “خاصة”.
قبل الخوض في طبيعة العلاقة بين السعودية وسلطنة عمان، ينبغي الإشارة إلى طبيعة الوفد الذي رافق الأمير محمد في زيارته. يتقدم الوفد شقيق ولي العهد وزير الدفاع الأمير خالد بن سلمان ووزير الحرس الوطني عبدالله بن بندر. الوزيران هما المسؤولان السعوديان المعنيان أكثر من غيرهما بالملف اليمني، بشقيه: الأول، الحرب ضد الحوثي وتأمين الحرف الجنوبي من الحدود؛ والثاني، ترتيب وضع الجزء الجنوبي من اليمن سواء العلاقة بالمجلس الانتقالي أو صراع النفوذ في حضرموت والمهرة. في الجانب الآخر، شارك كبار أمراء آل بوسعيد في الاجتماع بين السلطان هيثم والأمير محمد، ومن الواضح من طبيعة الحضور أن الشأن العسكري الذي جلب وزيري الدفاع والحرس الوطني السعوديين، هو الذي جعل السيد شهاب بن طارق نائب رئيس الوزراء لشؤون الدفاع ونجلي السلطان السيد يزن بن هيثم والسيد بلعرب بن هيثم يحضرون الاجتماع (أو الاجتماعات) بحسب البيان الرسمي العماني. هذا المستوى من اللقاءات بحضور مسؤولين يشرفون على ملفات أساسية، يكشف طبيعة الاجتماعات وأهميتها.
◙ ذهب الحوثيون إلى الرياض بطائرة عمانية، ومن المبكر معرفة المدى الذي سيذهبون إليه في التسوية السياسية للحرب في اليمن. لكنهم بالتأكيد لن يكونوا مرتاحين للتنسيق السعودي – العماني
القراءة الأولية للزيارة والاجتماعات تقول إن الموضوع الذي بقي مؤجلا لفترة طويلة قد حان وقت البت فيه: كيف سيتم توزيع دوائر النفوذ في المهرة وحضرموت بين السعودية وعمان؟ الطرفان السعودي والعماني ينظران إلى هذه المنطقة كمساحة حيوية لاعتبارات الأمن القومي والفعل الاقتصادي. المعطيات تؤشّر على مسعى إيران لحسم حرب اليمن بعد أن استقر وضع السلطة لصالح الحوثيين في مناطق الشمال، وصار من الواضح أن التحالف يعيد ترتيب أوراقه بشكل يختلف اليوم عن بداية الحرب قبل سنوات، وأن قوى كثيرة برزت لتفرض نفسها في الجنوب ومأرب وشبوة. صار ملف حضرموت والمهرة أولوية لدى الأطراف المعنية، وخصوصا السعودية وعمان.
سبقت سلطنة عمان السعودية بالتحرك نحو المهرة (وحضرموت بدرجة أقل). ليس سرا عسكريا أن الكثير من زعماء القبائل النافذين في المهرة ورجالهم المقربين يحملون الجنسية العمانية بالإضافة إلى جنسيتهم اليمنية. منح الجنسية لهؤلاء كان مرتبطا بشرط البقاء في المهرة بهدف “مسك الأرض” لصالح السلطنة. وإذا كانت لشخصيات قبلية مثل الشيخ علي سالم الحريزي ولاءات أخرى، قطرية أو إخوانية – إصلاحية أو حوثية، فإن الولاء الأهم يبقى لمسقط.
مع تزايد إدراك السعودية أن الانتصار على الحوثي صعب ومكلف، صار خيار التعايش مع وجوده في اليمن هو الأساس في التعامل معه. ما لم يتم التعايش معه هو الخيارات الجنوبية التي بدأت تفرز نفسها من أول أيام تحرير المناطق الجنوبية من الحوثيين على يد القوات الإماراتية. القوى الصاعدة في الجنوب، وخصوصا المجلس الانتقالي، ترى أن لا عودة لليمن السابق. وما بدأ مشروعا فيدراليا كفكرة، صار اليوم خطة من المجلس لاستعادة الاستقلال في الجنوب.
استقلال الجنوب مسألة مقلقة للسعودية. فالرياض أبدت اهتمامها منذ عقود بإطلالة عبر حضرموت أو المهرة على المحيط الهندي. السعودية ترى أن كل نفطها وتجارتها يمرّان من خلال مضائق خطرة، في باب المندب ومضيق هرمز. وعزز من إحساس السعودية بالخطر أن الحوثي يتحكم اليوم بممر البحر الأحمر من حافته الجنوبية. ومنذ تولي الأمير خالد بن سلمان منصب نائب وزير الدفاع ثم وزارة الدفاع في السعودية، صار واضحا أن الموقف في المهرة وحضرموت على سلم أولوياته، ربما في اعتراف ضمني بأن من الصعب تغيير الموقف في مناطق سيطرة المجلس الجنوبي لصالح النفوذ السعودي. يبقى بالطبع الخيار الآخر وهو أن تكون الإطلالة السعودية على المحيط من خلال أراضي السلطنة المستقرة نفسها، بدلا من خيارات الأرض القلقة في اليمن.
◙ القراءة الأولية للزيارة والاجتماعات تقول إن الموضوع الذي بقي مؤجلا لفترة طويلة قد حان وقت البت فيه: كيف سيتم توزيع دوائر النفوذ في المهرة وحضرموت بين السعودية وعمان؟
لا يمكن للسعودية أن تمد نفوذها بشكل سلس في المهرة وحضرموت من دون التنسيق مع سلطنة عمان. وعلى مدى سنوات بقي الاحتكاك بين السعوديين والعمانيين قائما، سياسيا واستخباريا. لكن مزاج التسويات الذي صار يطبع خطوات القيادة السعودية خلال الفترة الماضية كان لا بد أن ينعكس على العلاقة مع مسقط، وهكذا نرى اليوم تلك الزيارة “الخاصة”.
للحوثيين أجندتهم الخاصة في اليمن ومناطق الجنوب. ثمة قوات من المهرة موالية للحريزي تتدرب بشكل دوري في صنعاء، والتأثير الحوثي أكثر من محسوس في المحافظتين. ولعل هذا ما يدفع الحوثيين إلى قبول الدور العماني في الملف اليمني، على ألّا يتجاوز دور الوسيط. لا يريد الحوثيون أن تصبح مسقط شريكا في ملف تقاسم مناطق النفوذ في يمن ما بعد الحرب. وعندما التقط العمانيون هذه الإشارة بوضوح، صار من اللازم تحريك الموضوع المؤجل والحديث مع السعودية – ذات المزاج الأكثر اعتدالا الآن – للتوصل إلى صيغة تقاسم للنفوذ تسترضي الطرفين وتستخدم الاستثمار الطويل في الشخصيات والقبائل. من الضروري أيضا التذكير بأن في الجانب الآخر من الحدود، داخل عمان، هناك منطقة ظفار التي تعلو فيها المطالبات بين حين وآخر مما يسبب قلقا مستمرا لمسقط. من وجهة نظر عمانية، الاستقرار في غرب السلطنة يشمل أراضيها وحدودها والمهرة وحضرموت. ولا يمكن توفير مثل هذه الضمانات طالما لم تتم تسوية علاقة السعودية بهذا الجزء المهم من اليمن، على أمل أن يكون الحضور السعودي مؤثرا بما يكفي لموازنة النفوذ الإماراتي في جنوب اليمن.
ذهب الحوثيون إلى الرياض بطائرة عمانية، ومن المبكر معرفة المدى الذي سيذهبون إليه في التسوية السياسية للحرب في اليمن. لكنهم بالتأكيد لن يكونوا مرتاحين للتنسيق السعودي – العماني لأنهم في ترديدهم القول بوحدة اليمن، إنما يذكرون دائما بأن حضرموت والمهرة من حصتهم، وهم الجماعة التي تعلمت أن “طول البال يلبي المراد” وأن الصبر الإستراتيجي هو السياسة التي ينبغي أن تتبع مع الأطراف الإقليمية التي تتغير أولوياتها، في حين يجلس الحوثيون منتظرين الفرصة الملائمة.
على العكس من سياسة فك الارتباط بالمشاكل الإقليمية التي تتبناها القيادة السعودية مؤخرا، من الصعب تخيّل أنها ستجد “تسوية بلا حصة” في المهرة وحضرموت. عينها على المحافظتين. ولعل الامتداد من خلالهما نحو المحيط هو غنيمة الحرب الوحيدة التي تخرج بها السعودية من حرب كلفتها الكثير. لكنه امتداد فيه الكثير من الشركاء ممن وصلوا إلى طاولة التقاسم أبكر من الرياض. وحتى يأتي الوقت لمعرفة كيف سيتم توزيع النفوذ، سنستمر بتفسير الإشارات المقتضبة من البيانات وتحليل التكتم.
نقلاً عن العرب اللندنية