إبراهيم غرايبة
كاتب أردني
إنّ اعترافنا بأزمة التنمية والتخطيط الاقتصادي والاجتماعي في عالم العرب والمسلمين ليس مبرراً أو تسويغاً للجماعات المتطرفة. وكذا الجرائم والمشكلات الاجتماعية التي تنشأ في بيئة الفشل ليست متقبلة، لكنّ تفسير ظاهرة التطرف والتعصب باعتبارها أزمة اجتماعية، مثلها مثل الجريمة أو التفكك الأسري، يهدف في الحقيقة إلى فهم قريب من الواقع للحالة السائدة في عالم العرب والمسلمين.
يقول إريك هوفر (المؤمن الصادق): إنّ الذين ينضمون إلى حركة ثورية صاعدة أو حركة دينية أو قومية يتطلعون إلى تغيير مفاجئ كبير في أوضاعهم المعيشية، فجميعها حركات من وسائل التغيير، وعندما تتقدم فرص تطوير الذات، أو لا يسمح لها بالعمل كقوة محفزة، يصبح من الضروري إيجاد مصادر بديلة للحماسة، وهنا تكون الحركات الجماهيرية (دينية أو ثورية أو قومية) عاملاً لتوليد الحماسة العامة.
يتوافق ذلك مع نزعة إنسانية إلى البحث خارج أنفسنا عن العوامل التي تصوغ حياتنا، حتى عندما يكون وضعنا هو نتيجة عوامل داخلية، كقدرتنا أو شخصيتنا أو مظهرنا أو صحتنا، يقول الفيلسوف الأمريكي هنري ديفيد ثورو (1817 ـ 1862): “عندما يشكو المرء شيئاً يحول بينه وبين القيام بواجباته، حتى عندما يكون ألماً في أمعائه، فإنّه يبادر إلى محاولة إصلاح العالم”.
حتى الناجحون والمتفوقون يؤمنون أنّ نجاحهم جاء بسبب الحظ السعيد، ذلك أنّهم ليسوا متأكدين من معرفتهم بأسباب نجاحهم. أو لا يدركون قوتهم الذاتية كعامل في النجاح أو الفشل. العالم الخارجي يبدو مثل آلة تدور على نحو يستحيل ضبطه أو توقعه، وما دامت هذه الآلة تدور في صالح الناس؛ فإنّهم يتجنبون العبث بها، وهكذا فإنّ الرغبة في التغيير، والرغبة في مقاومة التغيير، تنبعان من المصدر نفسه: الإيمان بتأثير العوامل الخارجية. لكنّ عدم الرضا في حدّ ذاته لا يخلق دافعاً للرغبة في التغيير. يجب أن تتضافر معه عوامل أخرى، وأحد هذه العوامل هو الإحساس بالقوة، فالذين يخافون من محيطهم لا يفكرون في التغيير مهما كان وضعهم بائساً.
يقول هوفر: إنّ الناس يقاومون شعورهم بالخوف بإخضاع وجودهم لروتين ثابت، موهمين أنفسهم أنّهم بهذه الوسيلة يتجنبون المفاجآت، وهكذا نجد الصيادين، والبدو الرحل، والمزارعين الذي يعتمدون على تقلبات الطقس، والفنانين الذين ينتظرون الإلهام، يخافون من التغيير، ويواجهون العالم كما يواجهون قضاة يتحكمون في مصيرهم، ونجد عند الفقراء نزعة محافظة بعمق النزعة المحافظة عند الأغنياء، وأمّا الأشخاص الذين يندفعون لإحداث تغييرات واسعة، فإنّهم يشعرون بأنّهم يملكون قوة لا تُقهر.
امتلاك القوة لا يكفي للتغيير، ولكن لا بدّ من الإيمان المطلق بالمستقبل، وعندما يغيب هذا الإيمان تصبح القوة داعمة للأوضاع القائمة ومناهضة للتغيير، فالراغبون في التغيير يوقدون الآمال الجامحة.
الذين يشعرون بالتذمر من غير أن يكونوا فقراء، وأن يكون لديهم شعور باقتناعهم بالعقيدة الصحيحة، أو اتباع الزعيم الملهم، أو اعتناق أساليب جديدة في العمل الثوري، سيصبحون قوة لا تُقهر، ويجب أن تكون لديهم تطلعات جامحة إلى المنجزات التي ستأتي مع المستقبل، وفي النهاية يجب أن يكونوا جاهلين جهلاً تاماً العقبات التي ستعترض طريقهم، أمّا المجربون وذوو الخبرة، فيأتي دورهم في مرحلة لاحقة، ولا ينضم هؤلاء إلى الحركة إلّا بعد التحقق من نجاحها، ولعل خبرة المواطنين الإنجليز السياسية هي التي تجعلهم بمنأى عن الحركات الثورية.
يلاحظ هوفر أنّه يصعب على الذين يعتقدون أنّ حياتهم فسدت أن يستهويهم تطوير أنفسهم مهما كان احتمال حصولهم على فرص أفضل، فلا شيء ينطلق من النفس التي يكرهونها يمكن أن يكون جيداً أو نبيلاً. شوقهم العميق إلى حياة جديدة، ومعنى جديد لقيم الحياة، لا يتحقق إلا بالانتماء إلى قضية مقدّسة، والتماهي مع جهود الحركة ومنجزاتها ومستقبلها يمنحهم الشعور بالكرامة والثقة.
تعتمد قوة الحركة الجماهيرية وحيويتها على قدرتها على تلبية رغبة أتباعها في محو الذات، وعندما تبدأ حركة جماهيرية في اجتذاب أناس لا تهمهم سوى مصالحهم الذاتية، فمعنى هذا أنّها لم تعد معنية بإيجاد عالم جديد، بل بالحفاظ على الأوضاع الراهنة وحمايتها، “كلما زادت الوظائف والمناصب التي تقدمها الحركة، انخفض مستوى الأتباع الذين ينضمون إليها، وعندما يحدث هذا تكون قد انتهت”.
إنّ الإيمان بقضية مقدّسة هو محاولة للتعويض عن الإيمان الذي فقدناه بأنفسنا، وكلما استحال على الإنسان أن يدّعي التفوق لنفسه، كان أسهل عليه أن يدّعي التفوق لأمته أو دينه أو عرقه أو قضيته المقدّسة، وينزع الناس إلى الاهتمام بشؤونهم الخاصة عندما تكون جديرة بالاهتمام، وعندما لا يكون لديهم شأن خاص حقيقي يهتمون بشؤون الآخرين الخاصة، ويعبّرون عن اهتمامهم هذا بالغيبة والتجسس والفضول.
والاعتقاد بالواجب المقدّس تجاه الآخرين كثيراً ما يكون طوق النجاة لإنقاذ الذات من الغرق، وعندما نمدّ يدنا نحو الآخرين، فنحن في حقيقة الأمر نبحث عن يد تنتشلنا، وعندما تشغلنا واجباتنا المقدّسة، نهمل حياتنا ونتركها خاوية بلا معنى، وما يجذب الناس إلى حركة جماهيرية هو أنّها تقدّم بديلاً للأمل الفردي الخائب، والعاطلون ينزعون إلى اتباع الذين يبيعونهم الأمل قبل اتباع الذين يقدمون لهم العون، فالأمل هو السبيل الوحيد لإدخال القناعة والرضا لدى المحبطين.