عيسى جابلي
صحفي تونسي
إنّ الصورة التي يسعى حزب حركة النهضة الإخواني بزعامة راشد الغنوشي لترسيخها محليّاً ودوليّاً هي صورة الحزب الديمقراطي الذي يسعى للقطيعة مع تاريخه الاستبدادي وتاريخه المعادي للحريات والديمقراطية. ولم يبرز هذا المطلب على أجندة إخوان تونس إلا بعد سيل الانتقادات التي يواجهونها منذ ظهور الحزب في أواخر السبعينيات وتأسيسه فعليّاً مطلع الثمانينيات من القرن الماضي.
وكانت حركة النهضة مكرهة على القبول بالديمقراطية بوصفها “منتجاً غربيّاً” لا تؤيده، غير أنّ الانتقادات المتكررة في الداخل، وسعيها لتسويق صورة عن نفسها في الغرب متصالحة مع الحداثة ومقولاتها الغربية، كانا أهم سببين دفعاها إلى تكييف خطابها مع مقتضيات الواقع وإكراهاته.
غير أنّ تبنّي الديمقراطية في مستوى الخطاب سرعان ما تفضح تهافتَه ممارسات هذا الحزب. فراشد الغنوشي الذي يرتدي جُبّة الديمقراطي في خطاباته التسويقية لم يكن المؤسس الوحيد لحركة الاتجاه الإسلامي التي صارت فيما بعد حركة النهضة، بل كانت معه مجموعة من القياديين الذين رافقوه في تلك اللحظة وساهموا في انتشار الحركة في الداخل والخارج، ولأغلبهم قدرات خطابية وتحشيدية وسلاسة وتمكن من الشارع التونسي أكثر منه أضعافاً مضاعفة. يكفي فقط أن نستدل بحسن الغضباني وعبد الفتاح مورو وغيرهما كثير. إلا أنّ سطوة الغنوشي ونرجسيّته ورغبته الاستبدادية ونزعته إلى “امتلاك” الحزب دفعته إلى تحييد كل هؤلاء والتخلص منهم واحداً واحداً، ليحتكر السلطة ويعلن نفسه “الزعيم الأوحد” و”المالك الحصري” للحزب، فمكّن أصهاره وأبناءه والمقربين منه وزوجاتهم وأقاربهم من النفوذ، وأحاط نفسه بهم ليحوّل هذه الحركة إلى حركة أسرية يتحكم فيها كما يريد.
ورغم أنّ الظروف السياسية قد حتمت عليه في بعض الأحيان التخلّي عن رئاسة الحزب لأحد القياديين في الحركة، إذ تجد في تاريخ المتداولين على الرئاسة أسماء كثيرة، إلا أنّ الواقع قد أثبت أنّ الرئيس الأوحد فعلياً لحزب حركة النهضة الإخوانية هو راشد الغنوشي نفسه، القادر في أيّ لحظة على سحب البساط من كل من يبدي ملاحظة نقدية في سياسات الحركة أو توجهاتها أو توجهات زعيمها، والدليل على ذلك حجم الاستقالات التي ساهمت في زعزعة استقرار “الزعيم” واهتراء كرسيه، وعدد التصريحات النقدية ورسائل النقد التي وجهها له المئات من القيادات مثل عبد اللطيف المكي وسمير ديلو وغيرهما كثير، وقد ردّ عليهم الغنوشي بكبرياء وعنجهية تختزلها جملته الشهيرة التي عقب بها على استقالة حمادي الجبالي قبلهم: “لا قيمة لأيّ كان خارج حركة النهضة مهما كان وزنه”، وهي جملة تذكّر بالنظام القبليّ في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام.
كما أنّ تأجيل الغنوشي لمؤتمر الحركة مرات متتالية يفضح ادعاءاته الديمقراطية، فقد ظل يؤجل مؤتمر الحركة أكثر من مرة ويماطل باستمرار، لأنّ انعقاد المؤتمر يعني بالنسبة إليه مأزقاً تاريخياً، فإذا كانت لوائح الحركة تمنعه من الترشح مجدداً لرئاسة الحركة، فإنّ رغبته الجامحة في السلطة قد دفعته إلى المماطلة والصمت عن المؤتمر مخافة التفريط في الرئاسة، أو أنّه فشل في حشد الدعم الداخلي لتغيير لوائح الحركة وقانونها الداخلي للسماح له بالتمديد، وربما كان يعمل في فترات المماطلة هذه على تغيير الرأي العام الداخلي لمصلحته. غير أنّ الأصوات المنتقدة له جعلته يشعر لأول مرة بالخطر والتهديد، وقد لمّح أكثر من قيادي في الحركة إلى أنّ منبع التمويل الأول للحركة هو راشد الغنوشي نفسه، وأنّ ورقة التمويل قد طرحت أكثر من مرة في جدل تخلي الغنوشي عن رئاسة الحركة، إذ اشترط كثير من القياديين تخليه عن الرئاسة دون التخلي عن تمويل الحركة، ويبدو أنّ هذه الورقة كانت ورقة الضغط الأبرز لبقاء الغنوشي رئيساً.
يعلم الغالبية أنّ الغنوشي هو المشرف على تمويل الحركة وتلقيها التمويلات من الخارج، والساهر على تشبيك علاقاتها بمنظمات وحركات دولية سراً تتولى تمويل الحركة في تونس وخارجها بأموال مجهولة المصدر عن طريق تبييض الأموال وتهريبها، والدليل على ذلك مثلاً، تمويل صفقات مع شركات ضغط أمريكية بأرقام خيالية، وتسجيل العقد باسم امرأة باكستانية مجهولة.
وظّف الغنوشي هذا العامل في بقائه رئيساً فعلياً على رأس حركة النهضة منذ تأسيسها، وتخلص من كل منافسيه بطرق وصلت في بعض الأحيان إلى درجة من الرداءة بلغت حد تسريب إشاعات أخلاقية في حقه ظلت تلاحقه وتؤثر فيه إلى أن توفّي مصرّحاً كلما سئل عن علاقته بالغنوشي بأنّه يترك أمره للفصل بينهما “إلى أحكم الحاكمين”، وقد نكشف ذلك في مقال لاحق.
وكثيراً ما تباهى الغنوشي وقيادات حركة النهضة الإخوانية بأنّ للحركة مؤسسات تصوغ قراراتها وتوجهاتها، ولكن كشف تهافتَ هذا الزعم دخولُ راشد الغنوشي إلى السجن على خلفية عدد من القضايا المثارة ضده، ومنها ما هو حديث ومنها ما قُدّم في حقه سابقاً واحتمى منه بالحصانة البرلمانية أو بحكوماته المتعاقبة. فبعد إيداعه السجن عيّن الغنوشي منذر الونيسي نائباً له، دون مرور بمجلس شورى الحركة، رغم انتقادات كثيرين رأوا أنّ هناك من هم أحق منه في نيابته على رأس الحركة وقتياً، فمنذر الونيسي لا يكاد يعرفه أحد، غير أنّ ما يحكم التعيينات داخل الحزب ليس الكفاءة ولا مؤسسات الحركة كما يدّعي، بل هي يد الغنوشي تعين من تريد وتعزل من تريد وتهمّش من تريد، وبذلك يضرب عرض الحائط بادّعاءاته في مستوى الخطاب بالديمقراطية.
وما زال الشارع التونسي يذكر كيف ادعت حركة النهضة الديمقراطية ومطالبتها بها وروجت صورة معاصرة حسب الناس أنّها قد استفادتها من المنافي الأوروبية، غير أنّ سيطرتها على المجلس التأسيسي بأغلبية نوابها جعلها تتعدى مرسوم المجلس التأسيسي الذي يقيد عمله بعام لا أكثر، وسرعان ما اخترقت ذلك منقلبة على المرسوم، وأعلنت تحدي الشارع الرافض لتجاوز المدة المحددة بعام غير قابل للتجديد لصياغة دستور جديد للبلاد، ولم تغادر المجلس إلا مكرهة بعد أن كادت تتسبب في حرب أهلية لولا خوفها وقتها من تكرار سيناريو إخوان مصر، رغم أنّها رفعت الشعارات نفسها وعلى رأسها “الشرعية”، وها هي ترفعها الآن بالطريقة نفسها بعد فشلها في الحكم، وما زالت تعتبر الغنوشي رئيساً “شرعياً” لمجلس النواب في تحدٍّ واضح للواقع والتاريخ.
إنّ مآزق خطاب الإخوان وتعقيداته وتناقضاته بين المعلن والممارَس سرعان ما ينكشف صارخاً، سواء في الممارسات الداخلية للحركة، أو في تعاطيها مع الأحداث في المستوى الوطني أو الدولي، فينكشف زيف ادعاءاتها وادعاءات رئيسها أمام الرأي العام في الداخل والخارج، وذلك أضعف شعبيتها وتهاوى بها إلى الحضيض، وانفض من حولها الداعمون في تونس وخارجها، ولم يعد أحد يساندها باستثناء قلة لا وزن لها في الشارع التونسي والدولي.
نقلاً عن حفريات