أدونيس غزالة
كاتبة سورية
العلاقة الجدليّة بين الفكرِ واللغة تجعل كلّاً منهما مرآة الآخر؛ إذ يتمظهر أحدهما في الآخر ويتعيّن فيه، وهذا التعيُّن يعكس الطبيعة العامة للأفراد الذين يشكّلون المجتمع، من خلال مجمل العلاقات التي تربط بينهم، ولكن إذا كانت هذه العلاقات تحدّ من إمكانيّة الفرد ومن قدراته، أو قد تُلغيها، كما يتم إلغاء وتهميش دور المرأة وفعاليّتها، فلابدّ من نقد الخطاب الاجتماعي المؤسَّس على فكرة الهيمنة والتبعيّة الذكورية؛ إذ لا يمكن صياغة وعي جديد من دون تصفية الرواسب العالقة في أنماط التفكير الاجتماعي، والوعي الجديد ليس مفارقة تتقرّا الانحياز إلى نموذج متقدّم من باب الموضات الثقافية والمعرفية، إنّه الحالة التي تَستثمِر في الإنسان فاعليّته التي تحرر طاقاته وتُطلِقها، ولن يكون هذا الإطلاق مجدياً طالما رواسب التأخر تحتل قعر وجودنا، هذا ما يُحَتّم علينا تنقية اللغة من المرجعيّات التي تتناقض مع المفاهيم الجديدة، خاصةً إذا كان الخطاب يتمحور حول الطفل، أو موجّه للطفل.
خطاب يعيد إنتاج نفسه
هناك فرق بين الخطاب التقليدي الذي يعيد إنتاج الفكر نفسه، وبين الخطاب المعرفي النّاقد الذي يؤسس لفكر جديد، وهذا ما يجعل المختص مُلزَم بالدّقة والموضوعية في استخدام المصطلحات والمفاهيم، وإلاّ سنكون أمام تناقضات كثيرة تكرّس ما هو قائم، وتُعرقِل كل ما يؤدّي إلى بناء الفهم الصحيح المؤسِّس لعلاقة أكثر تفاعليّة بين الأفراد.
مقالات وبحوث وكتب تطرح مواضيع تخصّ الطفل والطفولة والتربية الحديثة والتعلّم البنّاء، مرتكزة على أسس منفتحة على الذات وعلى الآخر، لنفاجأ خلال قراءتنا لها، بانفلات جملة من الكاتب تُناقِض كامل المحتوى، مثل جملة “أطفال اليوم هم رجال الغد”، والأمثلة على ذلك كثيرة، نورد منها ما جاء على لسان سامية خضير، أستاذة علم الاجتماع في جامعة عين شمس، خلال تحقيق لإيريني سعد توفيق، في مجلة وطني، حول “تأثير الميديا على أطفالنا في تشكيل وجدانهم”،”إنّ كثيراً من الميديا تصدّر لنا العنف، فهي قادمة من الخارج، وهذا له بعد سياسي خطير، فأطفالنا هم رجال الغد وشبابها”، وفي جريدة الوطن، كان عنوان المقال “أطفال اليوم هم رجال الغد” لفاطمة الغزال، أمّا في الألوكة الاجتماعية، جاء في مقال “أطفالنا والمكتبات”، بقلم عبد العزيز بن محمد المسفر “رجال الحاضر هم أطفال الماضي، وأطفال اليوم هم شباب الغد ورجال المستقبل”، وفي ديوان العرب ورد في مقال “التربية والديمقراطية” بقلم جميل حمداوي “على رجال الإدارة الأخذ بالقيادة الديمقراطية لتحقيق النجاح الحقيقي، والجودة البناءة، وإضافة النجاعة على أنشطة التسيير والتأطير” وهذه الجملة تكرّرت في مقال “الأسس التربوية لمكافحة التطرف” بقلم مصدق الجليدي في مجلة ذوات العدد42.
جملة بهذا العيار، وغيرها الكثير من الجمل، تؤكّد على الوعي الجمعي ورواسبه، وترسّخ وتكرّس الفكر الذكوري، وتحذف نصف المجتمع، وذلك مردّه فقط لانعدام الدقة والانتباه. لاشك أنّ المجتمعات تطفو فوق اللغة؛ فاللغة من تمنح الإنسان بُعده التواصلي، ولكن هذا التواصل نفسه مرهون بالكيفية التي تتشكل من خلاله اللغة، لتشكّل فضاء العلاقة، فنحن لا يمكن أن نقول أفكاراً جديدة بلغة قديمة، ما أرمي إليه: أنّ اللغة تتشكّل داخل فضاء حسّي عام، فهي لا يمكن أن تنتقل من ضفّة إلى أخرى، إلّا إذا أسّست لحساسيّة متجاوزة، تنطوي على قطع إبستيمولوجي.
خطورة تكريس الصور النمطية
تلعب الكيفيّة التّي يتلقّى الطفلُ بها العالم، دوراً حاسماً في بناء فاعليّته، لذا يتوجّب النّظر إلى هذه الكيفيّة بإمعان وتمعّن؛ لأنّها ستكون مسؤولة عن مستقبل وعيه الاجتماعي والإنساني، وتتشكّل هذه الكيفيّة من الدّلالات التّي يتلقاها الطفل، والمتَضمَّنة في الخطاب أيّاً كان شكله. فقد نبّه علماء الاجتماع إلى خطورة الدور الذي يلعبه خطاب الصورة في مرحلة التعليم الأساسي، وما لذلك من تأثير على تكوّن التوجّهات الفكريّة للنّشء، والتي قد يصعب تغييرها في المستقبل، إذ إنّ الصّور النمطيّة تكرّس وعياً نمطيّاً، لا يمكن النّظر فيه إلى المرأة والرجل، إلّا ضمن الرواسب الثقافية المؤسَّسة في اللاوعي الاجتماعي، فتأخذ الصور حينها مدلولات نهائيّة، تُشَكّل حدود رؤية الفرد للآخر وللعالم.
في كتاب العربية لغتي للصف الثاني الأساسي الصادر عن وزارة التربية السورية لعام 2016/2017، ذُكر في المقدّمة “هذا كتاب العربية لغتي نقدّمه لتلاميذنا، معتمدين في تأليفه آخر ما توصّلت له النظريات الحديثة في تعلّم اللغات، مع الحفاظ على خصوصيتنا في تعليم اللغة العربية وتمكينها، والتّي تجاوزت كل التعقيدات المناقضة لمبادئ التربية الحديثة”. وبالنّظر إلى المحتوى من حيث المعايير المعرفية والمهاريّة، نلمس نقلة نوعيّة مقارنةً بالمناهج السابقة، ولكن عند تحليل خطاب اللغة والصورة، نصطدم بالتناقض الصارخ بين ما جاء في المقدمة باعتمادهم على مبادئ التربية الحديثة، والتي يجب أن يكون من ضمنها مساواة كلا الجنسين اجتماعياً، وبين ما نجده في خطاب اللغة والصورة من تغييب كامل لدور المرأة، ليخيّم على كامل الكتاب الواقع الذكوري؛ حيث إن وُجِدَت المرأة فهي خلفيّة لا أكثر من ذلك.
من المفترض على مفهوم الإنسان ألاّ يحمل تمايزاّ جنسياً؛ إذ إنّه ينطوي على المؤنث والمذكّر بالتساوي، ففي انتقاص الاعتراف بأي طرف منهما سواءً أكان متعمّداً أم غير متعمّد، سيخفِّض الفعاليّة العامّة للحياة الإنسانية، وهذا من شأنه أن يُعيد إنتاج التأخّر والتخلف الاجتماعيين بشكلٍ مستمر، وذلك ليس فقط من خلال حرمان المجتمع من إمكانات هائلة تتوفّر عليها الأنوثة؛ بل أيضاً من خلال عدم التجانس والتنافر الذي يسود المجتمع، ممّا يجعله بيئة خصبة لخطاب الإلغاء، الذي لا يُنتِج سوى العنف.
نقلاً عن حفريات