أنجيل الشاعر
كاتبة سورية
الأنوثة والذكورة؛ شكلان بيولوجيان من أشكال الطبيعة الحية، ولكلّ منهما جملة من الخصائص موجودة في كلّ ذكر وفي كلّ أنثى من الكائنات الحية، لكنّ المجتمعات التي أنشأها البشر بأنفسهم، بخلاف بقية الكائنات الحية؛ جعلت من الأنثى امرأة ومن الذكر رجلاً، وامتدّ هذا التمييز إلى تمييز آخر، من خلال الوعي الجمعي والأفكار النمطية التي حدّدت الفروق بين الرجل والمرأة، على أساس بيولوجي محض، وارتكزت جميع تلك الأفكار على الشكل الفيزيائي عند الذكر والأنثى، مع أنه كأي جهاز آخر في جسم الإنسان (ذكر وأنثى)؛ بل هو مكمّل لإنتاج الطاقة الحيوية فيه.
الفروق الشكلية بين الأنثى والذكر تنحو باتجاه الأفكار الاجتماعية التي أعلت من شأن الذكورة، ووصفت المرأة بالسلب على أساس عضوي، علماً بأنّها معقولات أولية للمفهوم البيولوجي؛ لعلم حضوري لا يحتاج إلى كاشف أو برهان على وجوده، ولا يستوجب التشكيك أو التصديق، إلاّ أنّ العوامل الاجتماعية التي تجمّعت في المركزية الذكورية، كما طرحها جورج طرابيشي، جعلت من العلم الحضوري علماً حصولياً امتدّ بالنقص البيولوجي، على افتراض وجوده، إلى نقص في العقل والدين عند المرأة، وحرمانها من التمتع بالفضاء الإنساني الذي يتمتع به الرجل؛ فنحن إذاً أمام أحكام وتصنيفات ذكورية تنبثق منها الأحكام وتنبني عليها المواقف.
“في كلّ رجل أنثى، لكنّ نفس الرجل كانت مسرحاً لصراع شبه أبدي بين المبدأ المذكر والمبدأ المؤنث، بين الفعل في العالم وبين القبول بالعالم”. “الأنثى” البيولوجية في نفس الرجل “صورة ذهنية دائمة الحضور، فهي “نرسيسته، جنّية إغرائه”، بحسب تعبير طرابيشي؛ إذ هي البحيرة الساكنة التي يرى الرجل من خلالها جرحه الفاغر، من هنا يبدأ موت جسده الداخلي؛ وينبت له جسد خارجي ينظر إلى العالم من خلاله، عالمٌ مليء بالنساء، “اللارجل هو المؤنث أو بالأحرى المخنث”.
من هذه النقطة أيضاً تبدأ المرأة في البحث عن بديل لأنوثتها المستلبة؛ فيدور الصراع بينها وبين أنوثتها اجتماعياً؛ حيث الرجل أعلى منزلة من المرأة في الأيديولوجية الاجتماعية الرثة، بحسب طرابيشي، فتتجه نحو الرجولة لإثبات وجودها المستلب، تحاول أن تنمي في داخلها عنصر الذكورة الموجود بحالته الطبيعية، لتصبح ذكراً مُعترفاً به اجتماعياً، تثبت هويتها الجنسية المضطربة في حالٍ من الأحوال؛ أي في غياب العدالة المجتمعية التي تفضي إلى نسقٍ أفقي للعلاقة بين الرجل والمرأة، وتلغي وهم التناقض المطلق بين الذكورة والأنوثة؛ الذي أرسته الهيمنة والسلطة، لتكوين هوية المجتمع الجنسية، تقول ميليسيا هاينز: “..اضطراب الهوية الجنسية، أي إصرار الأنثى على تعريف نفسها بأنها ذكر ورغبتها في التحول إلى ذكر، أو العكس، يجب أن تقوم دليلاً، لا على نسبية الفروق فقط، بل على وحدة الأنوثة والذكورة أساساً”.
ويعلق بيير بورديو بقوله: “ليس من قبيل الصدفة أن تتسلح فرجينيا وولف عندما ترغب أن تترك ما تسميه بـ”السلطة التنويمية للهيمنة” معلقاً بمماثلة إثنوغرافية، تربط توليدياً فصل النساء بطقوس مجتمع متقادم Archaique”، فتقول: “من المحتّم أن نعتبر المجتمع مثل مكان للتآمر يبتلع الأخ الذي يملك الكثير منّا مبررات احترامه في الحياة الخاصة، ويفترض مكانه ذكراً متوحشاً ذا صوت مزمجر وقبضة قاسية، والذي يرسم بالطبشور إشارات على الأرض بطريقة صبيانية لخطوط الفصل الصوفية تلك التي تثّبت فيها الكائنات البشرية بطريقة جامدة ومنفصلة واصطناعية. في تلك الأمكنة يستمر الذكر في طقوسه الصوفية، وقد تحلى بالذهب والأرجوان… فيما نحن نساؤ”ه” يُغلق علينا في منزل العائلة، من دون أن يكون مسموحاً لنا المشاركة في أيّ من المجتمعات العديدة التي يتشكل منه مجتمعه”.
تلتقي نساء وولف مع “حريم” فاطمة المرنيسي، التي لم يغب عن أدبياتها، إلا في صفحات قليلة، مفهوم الحريم: “الحريم مفهوم مكاني، هندسته المعمارية تتوزع في قسمين اثنين: فضاء داخليّ أنثويّ مستتر ومحرّم على كل الرجال ماعدا السيد، وفضاء خارجيّ مفتوح على كل الرجال ما عدا النساء”.
إنّ لبّ المسألة؛ هو تسلط الرجل على المرأة وإخضاعها لمشيئته؛ وتسلط القلة على الكثرة من الرجال والنساء؛ في مجتمعات خضعت بكاملها للسلطات الديكتاتوية المستمرة في القهر والاستبداد، لإنتاج إنسان (ذكر وأنثى)، مقهور ومهدور، بحسب تعبير مصطفى حجازي.
وصف يونع نمطين مجردين للسلوك الإنساني، ليسا متواشجين بالجنوسة التشريحية؛ الإيروس، وهو مبدأ الترابطية “relatedness” الأنثوي، واللوغوس؛ وهو مبدأ الاهتمام الموضوعي الذكوري، واعتبرهما مبدأي السلوك.
مفهوم الأنثوية الذي ابتكره يونع، ومن ترسَّموا خطاه، أو نهجوا نهجه، يساعدنا على تفريق “المبدأ الأنثوي” عن التصور السطحي للأنوثة؛ فالأنوثة “هي القوة النمطية الأصلية للترابطية، التي تحملها النساء، (أو تكون أظهر لدى النساء منها لدى الرجال)، القوة التي تجذب الناس وتربطهم معاً. ففي معراج الناس نحو الكلية “Wholeness” يتكامل الرجال مع الجانب الأنثوي في نفوسهم، وتتكامل النساء مع الجانب الذكوري في نفوسهن”، بحسب يونع. هل يمكن افتراض أنّ الذكورة تحلِّل والأنوثة تركِّب، وأنّ هاتين العمليتين اللتين تقوم بهما المرأة، مثلما يقوم بهما الرجل تدلان على تكامل الأنوثة والذكورة، أم أنّ الأنوثة هي قوة الترابط التي تعين نسق التنظيم الذاتي للكائن؟
نقلاً عن حفريات