إبراهيم غرايبة
كاتب أردني
تفسر كاثلين تايلور كيف يتشكل التطرف العنيف (القسوة) ضمن منظومة متراكمة من السلوك الإقصائي يجعله يتحول إلى شيء عادي ومألوف ومتقبل بل ضروري.
فالأفعال المتقاربة تسببها أنماط ذهنية متداخلة. إنّ التنشيط المتكرر لفكرة إقصاء الآخر، حتى إن تم باعتدال، يطلق السلوك المتهور بشدة مفرطة، ويفسر ذلك سبب الاستعداد السريع للمجرمين الذين تعرضوا لإقصاء الآخر لعدة أعوام دون ارتكابهم أعمال عنف، من أجل القتل مثل “الرجال العاديين”، ويفسر ذلك أيضاً لماذا يلجأ الناس الذين اعتادوا ثقافات العنف، مثل أعضاء العصابات أو جماعات الخمير الحمر، إلى القتل لأسباب بسيطة وتافهة من وجهة نظرنا. إنّ تقبل المجتمع للعنف ولفكرة إقصاء الآخر هو الذي سهل التعديات المهلكة للقتلة.
الأفعال الطوعية والإرادية يصاحبها اختيار حرّ واضح من جانب الفاعل، كما لو كان جلس في ركن هادئ وكتب قائمة بما يؤيد أو يعارض فعله قبل أن يقرر الإقدام عليه من عدمه.
ويكون التأكيد على هذا الاختيار المنطقي العاقل قوياً بصفة خاصة عندما نفكر في مرتكبي جرائم القسوة، وقد نقنع أنفسنا بأنّ أسباب عدم الإقدام على تلك الجرائم كانت أسباباً جبرية وقوية بدرجة تجعل العقلاء من الناس يمقتونها ويحجمون عنها، فماذا يجب أن يكون أقوى من التفكير في الدم، والصراخ، والتقمص العاطفي أو الشعور بآلام الغير، والرفض الأخلاقي؟ والإجابة عن هذا، ولسوء حظ الضحايا، هي أنّ كل أنواع الدوافع من الخوف إلى الطمع أو الاضطرار إلى بدء الفعل يمكنها أن تتغلب على موانع الفعل عند شخص ما بصفة مؤقتة إلى حين، إلّا أنّ الاختيارات التي تقود إلى أفعال القسوة مع أنّها حرة قد لا تكون دائماً واضحة، سواء للفاعل أو للآخرين، ويعني ذلك أنّ الإشارات اللازمة للتحفيز على الفعل ربما لا تكون واضحة بالقدر الكافي،
فيما يختص بالخلايا العصبية، حيث يمكن تذكرها، وربما يكون قد تم تبريره بشدة سلفاً وقبل الفعل، وعندما يكون هذا الشخص واقعاً تحت ضغوط قوية، مثلما هي الحال غالباً مع المجرمين، ومع المتطلبات السريعة للموقف الذي تمنحه حافزاً على الفعل، والتي تسيطر على التحاور بين الخلايا العصبية، فإنّه لن يكون لديه الوقت أو الميل للانتباه إلى هذه النوازع المتصارعة، خصوصاً إذا كان التردد أو الارتياب أو وخز الضمير سوف يجلب السخرية منه أو الغضب الجماعي عليه.
وفي هذا المناخ من المواقف الضاغطة كالخوف من عصيان الجماعة يمكن أن يكون التأثير أكبر ممّا هو معتاد، وأن تكون الدوافع المألوف اعتبارها في الحياة اليومية “أفكاراً سيئة” مؤهلة لأن تتعاظم بطريقة تذهل كلّاً من المجرم والمشاهد.
لكن وعلى أيّ حال تقرر تايلور أنّ الانتقاص من قدر الإنسان واعتباره دمية تحركها خيوط المحفزات والدوافع لا بدّ أن يشجب أخلاقياً، وإن كان كثير من الحكومات يودّ فعله.
“شبكات المعاني” التي تمثل نسيج كل المخلوقات البشرية هي شبكات اجتماعية ورمزية تستمدّ قوتها على “تقييدنا” من حقيقة أنّها جزء منا، هي ما نقول أو نفعل، والرموز التي نوقرها، والأدوار التي نلعبها، وكلها تحدد هويتنا باعتبارنا بشراً، فكما تحدد أجسادنا وجودنا المادي باعتبارنا كائنات حية مستقلة، قد توحد أحياناً بالتعاطف أو المحاكاة أو العناق الحاني أو الجنس.
كذلك فإنّ معتقداتنا التي تحتل مشهدنا الإدراكي والمعرفي وطريقة إحساسنا بها تحددنا بصفتنا نظراً من الرأي والتفكير نفسها أو مختلفين، فتوحدنا معاً أو تجعل كلّاً منّا منفرداً أو بمعزل عن الآخرين، وكلنا متحفز للدفاع عن نفسه في مجابهة التهديدات، سواء كان معنى النفس ماديّاً أو عمليّاً. لكن بينما يكون التهديد المادي واضحاً للجميع، فإنّ التهديد بمعناه الرمزي موجّه لنا ولكلّ من يعنينا أمرهم ونهتم بهم. إنّ المعتقدات تبني العلاقات المحيطة بالقسوة، وتتحكم في رغبات الفعل لدى مرتكب الجرم، أمّا العواطف، فإنّها تدعم الحافز للفعل، فهي القوة الخلقية وراء كل فعل يتسم بالقسوة.
تترسخ المعتقدات في منظومة من المصالح والعلاقات والمشاعر والأفكار، يقول كارول ناغنغست (Carol Nagengast): “إنّ ارتكاب الدولة أو إجازتها للعنف الجسدي تجاه جماعة محددة الهوية لا يمكن أن يحدث إلّا إذا كان يسبقه عنف رمزي. وفي ذلك فإنّ المعتقدات هي كيانات تحمل معلومات فيها كل الإيحاءات العلمية والمنطقية التي يدل عليها هذا اللفظ، والمعتقدات بما يربطها من صلات بالمنطق تكون شبكة متسعة من المعارف التي نجمع منها هوياتنا، والتي من خلالها نتفاعل مع العالم، ونفترض أنّ معظم معتقداتنا صحيحة وحقيقية، وأنّها متجذرة ومتأصلة بثبات في العالم الحقيقي. وبالطبع فإنّ كثيراً من المعتقدات غير عقلانية، وهي أيضاً ليست ضارة، وقد تبعث على الارتياح.
وقد يساعد التعليم والتدريب العلمي على تعديل ومرونة بعض العقول، ولكنّها محاولة ليست كافية، فهناك كثيرون حولنا من ذوي التعليم العالمي و/ أو من المتدربين علميّاً وهم متعصبون، ولديهم استعداد لمصادرة وفرض أيّ رأي بديل دون إعادة النظر، ولا داعي لديهم لأيّ فحص لدليل أو برهان، لأنّهم يشعرون بشدة بأنّهم دائماً على صواب، وإلى أن نبلغ القدرة على إعادة تشكيل الكائن البشري سوف تبقى معنا “هذه الأفكار المغلوطة” والتي بلا أساس.
ومن الوسائل المفضلة التي يدعم بها الناس أفكارهم المفضلة والمغلوطة والتي بلا أساس هي أن يخفضوا مستويات برهانهم، وعلى العكس من ذلك فإنّ الأفكار غير المرغوبة تخضع للفحص والتدقيق الذي يليق بأكبر الفلاسفة المتشككين.
الإشارات في الحقيقة لا تستطيع دائماً تغيير أو تحويل توقعات العقل، فربما يجب علينا ألّا نندهش من أنّ مجرد المناقشة للحقائق قد تفشل. والأدلة والبراهين العقلانية تعطينا الكثير، ولكنّها لا تعطينا بنفسها أسباباً لأن نهتم كثيراً بالمعتقدات التي تؤيدها وتدعمها، وحبّ الحقيقة أحد الدوافع التي يشار إليها غالباً، ويبالغ فيها غالباً، مثل معظم أنواع الحب، فإنّه من النادر أن يكون نقيّاً وبلا شروط فيما يبدو. إنّ العلم مجهود إنساني بهدف الوصول إلى نظريات أفضل، وليست مثالية تصل إلى حدّ الكمال، إنّها تفسيرات تقترب من الحقيقة، ولذا؛ تقدّم تنبؤات أكثر دقة.
نقلاً عن حفريات