منير أديب
التصريحات الإسرائيلية الأخيرة منذ بداية الحرب على غزة والتي واكبت هجوم حركة “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر) الجاري على مستوطنات غلاف غزه، بخصوص فرار أهالي القطاع إلى سيناء، ومن ثم إحياء المخطط القديم المرتبط بإقامة دولة للفلسطينيين على الأراض المصرية، تعبر عن الرغبة الملحة في إعادة احتلال هذه البقعة المحررة من الأراضي المصرية.
وهنا أرادت إسرائيل أن تنفذ هذا المخطط الذي سبق وتم الإعداد له قبل أكثر من 10 سنوات، عندما وافق عليه الرئيس المعزول محمد مرسي في عام 2012، باتفاق مع حركة “حماس” في ذلك الوقت، برعاية أميركية وبرغبة إسرائيلية بهدف التخلص من كابوس غزة، من خلال إقامة دولة فلسطينية على أراضي غزة وسيناء معاً، وأن يُترَك سياج أمني على حدود هذه الدولة المقترحة من حدود غزة الملاصقة للمستوطنات الموجودة في الغلاف.
موافقة “الإخوان المسلمين” في مصر على هذا المقترح كانت بمثابة جواز مرور لهم للوصول إلى السلطة، ولعل هذا كان سبب الدعم الأميركي لـ”الإخوان” في ذلك الوقت، ومع تجدد الاشتباكات بين الفلسطينيين وإسرائيل وضع المقترح قيد التنفيذ، غير أنه لاقى رفضاً من قبل السلطة الفلسطينية.
الاتفاق كان على غير رغبة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس (أبو مازن) الذي أبدى الرفض، وأبلغ الرئيس المعزول محمد مرسي بذلك، واصفاً هذا الاتفاق بأنه تصفية للقضية الفلسطينية، فضلاً عن رفض أجهزة الأمن المصرية للاتفاق، ولعل هذا ما عجل مع أسباب أخرى بقرب زوال حكم “الإخوان” حتى قامت ثورة 30 حزيران (يونيو) عام 2013.
“الإخوان” لا يؤمنون بالحدود الجغرافية، هدفهم كان تحقيق مكسب سياسي، كأن يجلسوا على كرسي الحكم في مصر، وكانوا يُريدون إقامة دولة فلسطينية تكون فيها “حماس” على رأس السلطة أيضاً، حتى ولو كانت هذه الدولة مقتطعة من الأراضي المصرية، وهنا يكون “الإخوان” على رأس السلطة في مصر وفي فلسطين في ظل إقامة الدولة المتخيلة، وهو ما يُجسد فهم “الإخوان” القديم الذي سبق وعبّر عنه منظر التنظيم سيد قطب، عندما قال عن الأوطان، ما هي إلا حفنة من تراب نجس.
والرجل هنا لا يُؤمن بالحدود ولكنه يُؤمن بقضيته التي يفهمها وهي أن يحكم هو بالإسلام الذي يعتقد تطبيقه، فلا حدود خاصة إذا كان الوطن كله تحت إمرته، ولعل مرشد “الإخوان” السادس، محمد مهدي عاكف، عبّر عن ذلك من خلال قوله: “لا مانع من أن يحكمني مسلم ماليزي طالما أنه مسلم حتى ولو لم يكن مصرياً، فأرض الإسلام أوسع وأجلّ”، وهنا تتلاشى الحدود ولا اعتبار لها عند “الإخوان”!
سقط “الإخوان” وزال حكمهم، كما سقط مخططهم الذي رُسمت ملامحه داخل الكنيست الإسرائيلي وداخل أروقة الموساد والشاباك، وتحول إلى حلم بعيد المنال، بعد ثورة 30 حزيران من عام 2013، ورغم أنهم حاولوا إحياء هذا الحلم الآن، إلا أنهم فشلوا، بخاصة أن القيادة في مصر منتبهه كثيراً إلى المخطط الإسرائيلي والرغبه الملحة في معاودة احتلال سيناء من جديد.
عموم الشعب الفلسطيني يدرك حجم المخطط، ولذلك عزز من القرار المصري، رافضاً العرض الإسرائيلي والتهجير من أرضه، مفضلاً أن يموت عليها ولا أن يحيا بعيداً منها، وهذا يدل على التقارب المصري – الفلسطيني على مستوى فهم القضية وخدمة كل منهما لها رغم حجم الإغراءات والترهيب في الوقت نفسه.
رغبة إسرائيل في تهجير الفلسطينيين قديمة ولكنها أرادت أن تستثمر الحرب الأخيرة في غزة، من خلال طلبها بلسان أحد قادة الجيش الإسرائيلي فرار الغزاويين إلى سيناء، وعندما اعترضت القيادة السياسية في مصر وطلبت تفسيراً لهذا التصريح الشاذ، تراجعت قيادة الجيش بلسان أفيخاي أدرعي، ثم عادت إلى تكرار طلبها إلى أهالي غزة بالفرار إلى سيناء.
في الحقيقة، القصف العشوائي المكثف والمنظم في غزة هدفه هو هروب الفلسطينيين إلى سيناء لتحقيق الهدف المشار إليه، مصر لا تمانع من دخول المصابين والجرحى عبر معبر رفح للعلاج في المشافي المصرية، وقامت بأكبر حملة تبرع بالدماء لأهالي غزة ربما لم تشهدها البلاد من قبل إلا في حرب 1973، وهنا تختلط الدماء المصرية بدماء الشعب الفلسطيني الزكية في سيمفونية من التلاحم الحي، صورة جديدة تؤكد دور مصر في خدمة القضية الفلسطينية على مر التاريخ.
في الحقيقة طلب إسرائيل فرار أهالي غزة إلى سيناء هو بمثابة إعادة احتلال للأراضي التي سبق للمصريين أن حرروها بدمائهم. صحيح أن المخطط يؤكد أن الفلسطينيين هم من يقيمون فيها وليس الإسرائيليين ولكن برغبة إسرائيلية هدفها التخلص من الفلسطينيين أولاً، وأن تخرج هذه الأرض من تحت سيطرة أصحابها المصريين ثانياً، فإسرائيل تحلم بالعودة إليها من جديد عندما تكون مع من أخرجتهم من أرضهم.
فطنت القيادة السياسية في مصر إلى تصريحات القادة الإسرائيليين الأخيرة، كما أنها فطنت من قبل إلى المخطط الذي كان يستهدف احتلال سيناء في عهد حكم “الإخوان” في عام 2012، إذ طلبت منهم الولايات المتحدة وقتها أن يتم ذلك بموافقة شعبية من خلال البرلمان الذي كان يُسيطر عليه “الإخوان” والسلفيون في عام 2012، غير أن الوقت والشعب والثورة لم تمهلهم.
تحطم حلم إسرائيل في احتلال سيناء وفي تهجير الفلسطينيين من أرضهم، وها هي تعود مرة ثانية لمحاولة إحياء الحلم مستغلة الحرب الأخيرة في تحقيقه، ولعل مصر التي سبق لها وحررت الأرض بدماء شهدائها رفضت أي تهجير للفلسطينيين من أرضهم وبخاصة إلى سيناء، وهو ما وافق رغبة رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس”، إسماعيل هنية، عندما حيا القيادة في مصر وقال: “إن قرارنا يتوافق مع القرار المصري، الفلسطينيون لن يتركوا أرضهم وسوف يحافظون عليها”.
نقلاً عن “النهار” العربي