هشام النجار
يميّز الصدام والتضاد العلاقة بين حماس والمجموعات السلفية الجهادية التي تتخذ من غزة مقراً لها وعلى رأسها تنظيم داعش. وساهمت حماس بشكل فعال في ضبط هذه الجماعات وإجهاض مخططاتها سواء في علاقة بإسرائيل أو حتى حركة فتح، إلا أن سحق الجيش الإسرائيلي لحماس في عملية برية محتملة يفتح الأبواب أمام سطوة هذه الجماعات الأكثر راديكالية وعنفا.
وفي الوقت الذي ينشغل فيه العالم بالحرب الدائرة في غزة، تخوض حركة حماس الإسلامية صراعًا من نوع مختلف في مواجهة قوى راديكالية أكثر تشددًا بهدف الانفراد بمشهد مجابهة إسرائيل وعدم مزاحمتها في مزاعم تمثيل العالم الإسلامي وخوض النضال نيابة عنه.
ولم يترك تنظيم داعش فرصة الأحداث المشتعلة في المنطقة تمر دون أن يضع بصمته ويظهر في الكادر ليحظى ببعض المكاسب، بعد أن جرى تداول اسمه ضمن تصريحات مسؤولين إسرائيليين والإعلام الغربي في سياق تشبيه مقاربة حماس به، وجعل ذلك ذريعة للقضاء عليها.
وحرص داعش خلال الأيام الماضية على الظهور في مشهد الحرب الدائرة، مستغلًا رواج روايات تثبت اشتراك عدد من مقاتليه بشكل مستقل في هجوم السابع من أكتوبر الماضي (عملية طوفان الأقصى) دون التنسيق مع كتائب عزالدين القسام الجناح العسكري لحركة حماس.
وزعم منظرو داعش وقادته أن تنظيمهم هو من صنع الفارق خلال الهجوم، وخاضت أذرعه في غزة (جيش الإسلام ولواء التوحيد) قتالًا شرسًا بشكل مستقل عن مقاتلي كتائب القسام، وهم من “بثوا الرعب الحقيقي في نفوس اليهود”، ولولاهم ما تحقق الانتصار، حيث اشتبكوا في معارك مباشرة عطلت قدرة الجانب الإسرائيلي على الرد السريع.
التحول في إستراتيجيات حماس جاء بعد أن خرجت بعض الدول العربية من حلقة التخلف والركود وبدأت تسلك طريق التنمية
وشُوهدت راية تنظيم داعش في مستوطنة كيبوتس التي كانت مسرحًا لهجوم كتائب القسام وعملياتها وجرى تداول مقاطع تظهر قتال بعض منتسبي داعش في قرى ومستوطنات، وقُتل العشرات منهم في اليوم الثاني من عملية طوفان الأقصى، لضعف تسليحهم وقلة خبراتهم العسكرية.
وتقول رواية داعش إن مقاتلي التنظيم وذئابه المنفردة تمكنوا من تشكيل عدد من المفارز، واستغلوا الفتحات في الجدار الأمني للمشاركة في القتال في ساعة متأخرة من الهجوم، واستطاع بعض من بقي منهم على قيد الحياة أسر عدد من المستوطنين.
وبرّأ البعض حماس من الاتهامات الغربية والإسرائيلية بشأن ارتكاب فظائع وقتل مدنيين أثناء هجوم طوفان الأقصى، وفسر موسى أبومرزوق القيادي بالحركة في تصريحات لصحيفة “نيويورك تايمز” كثرة تداول روايات متعلقة بتجاوزات ضد العزل والنساء اليهود بأن هناك فلسطينيين آخرين التحقوا بمقاتلي حماس وشاركوا في القتال بلا رغبة الحركة أو تنسيق مع قادتها.
وتضاعف الجدل حول الربط بين داعش وحماس خلال زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى إسرائيل الثلاثاء حيث تحدث عن تشكيل تحالف دولي مناهض لحماس على غرار التحالف الذي شكل ضد داعش.
تفكيك محور إيران
حماس عُرفت بغلبة الحس البراغماتي لا الأيديولوجي وأنها تفكر كثيرا قبل أن تشن هجومًا خاطفًا على إسرائيل، ناهيك عن هجوم شامل بهذه الضخامة
لم يطرح داعش نفسه كشريك لحماس التي يتهمها بالنفاق والردة والكفر، إنما حرص على الظهور كمنافس وند لها، وأكد أن النصر الفعلي على إسرائيل “لن يتحقق تحت راية المحور الإيراني وأذرعه في المنطقة”.
ووفقًا لحسابات مناصري التنظيم وأتباعه، يجد داعش الفرصة سانحة الآن للقوى السنية المتصفة بـ”النقاء العقائدي” لتتقدم وتمسك بزمام المبادرة، مستفيدة من أن عدويها الرئيسيين (إيران وإسرائيل) منشغلان ببعضهما ويضعف كل منهما الآخر.
وخصص داعش العدد الجديد من صحيفته الأسبوعية “النبأ” للترويج لروايته لأحداث السابع من أكتوبر وما تلاها، ونشر كتّابه ومنظّروه مقالات تركز على تشويه صورة حماس، ودعوا لقتالها بوصفها ذراعا لعدوّ يعتبره عناصر تنظيم الدولة أخطر من إسرائيل، قتاله مقدم على قتالها، وهو نظام آيات الله في إيران.
وطرح داعش نفسه كمن يملك الوصفة الناجحة للانتصار على إسرائيل، والذي لن يتحقق، وفقًا لناشطي التنظيم، بالقتال خلف حماس وتحت راية المحور الإيراني، إنما خلف قادة تنظيم الدولة الذي يعتنق وحده العقيدة الإسلامية الصافية “ولا يوالي ويداهن الروافض ممن يسبون صحابة الرسول”.
ولم تنجح محاولات قادة حماس المكثفة عبر تبرئتهم من قتل المدنيين في التخفيف من تأثيرات الدعاية الغربية والإسرائيلية التي استندت إلى بعض الوقائع التي شارك فيها عناصر من داعش، وجرى تضخيمها بإضافة روايات مفبركة عن قتل الأطفال وذبحهم.
وأسهمت حماس في منح الفرصة لداعش والإعلام الغربي، فلم يكن تصديق هذه الروايات سهلًا قبل أحداث السابع من أكتوبر وانطلاق عملية طوفان الأقصى غير المسبوقة في تاريخ مواجهات الحركة مع إسرائيل.
وعُرفت حماس بغلبة الحس البراغماتي لا الأيديولوجي وأنها تفكر كثيرا قبل أن تشن هجومًا خاطفًا على إسرائيل، ناهيك عن هجوم شامل بهذه الضخامة، وهو الذي تخلى خلاله قادة الحركة عن واقعيتهم المعهودة، واستلهموا خطابات قادة السلفية الجهادية حول “المنازلة الكبرى ووعد الآخرة والقضاء على إسرائيل في ظرف أيام”.
تحولات غامضة
يكتنف الغموض هذه التحولات، حيث انتقلت حماس في غضون أسابيع من حركة تجنح نحو الحلول السياسية والتهدئة وتتوخى عدم الانجرار خلف خيارات حركة الجهاد الإسلامي وتُظهر تركيزها على الشق الاجتماعي والإنمائي إلى منظمة جامحة يدعو قادتها كل سكان فلسطين والأمتين العربية والإسلامية للاصطفاف خلفها لمنازلة اليهود ومن يناصرهم لتحرير كامل فلسطين.
وغلبت على خطاب محمد الضيف، وهو مهندس خطة طوفان الأقصى والقائد العسكري لكتائب القسام، وصلاح العاروري نائب رئيس المكتب السياسي لحماس العاطفة الجامحة المستوحاة من خطابات السلفية الجهادية دون مراعاة موازين القوى وردّات فعل إسرائيل وداعميها الأميركيين والأوروبيين، ودون مراعاة لواقع الفلسطينيين والضعف الذي تعانيه غالبية الدول العربية وجيوشها.
ويفسر البعض هذا التحول بأن هناك اختراقا على مستوى القيادة والهيكل التنظيمي من داعش لحماس والعديد من الفصائل الناشطة على الساحة الفلسطينية في غزة والضفة الغربية، لأن هجوم طوفان الأقصى سبقته هجمات صغيرة تتسم بالقسوة مستوحاة من منهج داعش، والذي بدأ يجد موطئ قدم داخل الضفة الغربية والمجتمع العربي داخل إسرائيل.
وتراجعت بشكل ملحوظ أطروحات كانت تركز على الحلول السياسية وتراهن على التسويات والنفس الطويل وعلى احتياجات الفلسطينيين كمجتمع لصالح تصورات ترى أن السبيل الوحيد لحل الصراع هو خوض مواجهة عاجلة وشاملة مع إسرائيل ونشر الأيديولوجيا الدينية بين السكان.
وذهب آخرون إلى أن حماس تعرضت لخداع إستراتيجي مركب جرها إلى ارتكاب أكبر وأفدح أخطائها على الإطلاق، بهدف تحقيق مصالح قوى كبرى مرتبطة بالصراع الدولي الحالي بين الولايات المتحدة وحلفائها في الغرب من جهة، والصين وروسيا من جهة أخرى.
ووضع أصحاب هذه الرؤية تفسيرًا مختلفًا لأحداث الأسبوعين الماضيين الفارقة في تاريخ المنطقة والعالم، ورأوا أن الأساطيل الأميركية ما كانت لتتحرك إلا بعد تدبير اختراق استخباراتي أعطى قادة حماس انطباعًا مغلوطًا بشأن المدى الذي يمكن أن تصل إليه ردة فعل إسرائيل على هجومها بهدف إشعال مواجهة كبرى تعيد العالم العربي إلى عدم الاستقرار.
وتساءل من تبنّوا هذا الطرح عن مغزى توقيت هذا التحول بعد أن خرجت بعض الدول العربية من حلقة التخلف والركود وبدأت تسلك طريق التنمية المستقلة وتقدم نماذج عالمية للتنمية الاقتصادية والازدهار الاجتماعي والاستقرار السياسي، وصارت تفكر بصورة مستقلة عن العالم الغربي.
السيطرة على المنطقة
قال خبراء عرب إن الولايات المتحدة وحلفاءها في الغرب لن يستسلموا أو يتسامحوا بسهولة مع خروج الشرق الأوسط من فلكها، حيث خرجت دوله من موقع التابع باحثة عن شركاء آخرين مثل روسيا في مجال التسلح العسكري والصين في مجال الاقتصاد، وانضمت ثلاث دول منها هي مصر والسعودية والإمارات إلى مجموعة بريكس، ما مثل تحديا للغرب.
وألمح الأكاديمي والمفكر المصري نصر عارف في مقال له بصحيفة “الأهرام” المصرية تحت عنوان “إسرائيل والغرب.. من يستخدم من”، الاثنين 23 أكتوبر، إلى أن تحرك الأساطيل الأميركية والغربية لم يكن لمواجهة حماس، إنما لضمان رسم هزيمة للعرب في غزة تكون من الفظاعة إلى الدرجة التي تؤدي إلى إطلاق موجة من التطرف والعنف تربك المجتمعات وتشتت جهود الدول وتحول دون الاستمرار في الخطط الاقتصادية المنشودة وتعرقل مسار الاستقلال عن الغرب.
ويعيد انجرار حماس وراء الخيارات الأكثر عنفًا لتيار السلفية الجهادية وتخليها عن الدور الاجتماعي في قطاع غزة إلى الأذهان التحول الذي طرأ على تنظيم الإخوان في مصر عقب عزله عن السلطة في يونيو 2013، حيث انخرطت أجنحة فاعلة فيه في مواجهات خشنة متبنية الرؤى الأكثر حدة وعنفًا.
وكما أنه من الصعب عودة الجماعة الأم إلى المشهد السياسي وأدوارها الاجتماعية والدعوية مع تقديم بعض التنازلات بعد تورطها في العنف والإرهاب لعدم الثقة في وعودها، فمن الصعب استعادة حماس لحالتها السابقة قبل السابع من أكتوبر، بعد أن خُدع الجميع بمظهرها وخطابها البراغماتي ليفاجأوا بحالة جهادية كامنة خلف الخطاب السياسي المناور.
ويستفيد داعش وطيف فصائل السلفية الجهادية من هذه التحولات، ويتيح الإفراط الإسرائيلي في القسوة والانتقام بيئة مواتية لتجنيد جيل جديد من المسلحين الذين يتبنون القناعات الأكثر حدة وعنفًا.
ويغري فراغ الساحة على خلفية الرغبة الإسرائيلية في القضاء على حماس وتقويض بنيتها العسكرية الحركات الجهادية المناوئة، وفي مقدمتها داعش على السعي إلى ملئه، مع تفاقم الفقر والبطالة وتداعيات الحصار الشديد.
وبات الخيار الأقل كلفة بالنسبة إلى إسرائيل هو إنهاء حكم حماس والخروج سريعًا من القطاع، ما يعني ترك الحركة ضعيفة وخلق فراغ سلطوي يستقطب الفوضى والجهاديين من مختلف أنحاء الشرق الأوسط والعالم، وتحويل غزة إلى مركز جهادي إقليمي في مواجهة إسرائيل ودول المنطقة.
وتتملك أذرع تنظيم داعش في غزة الرغبة في الثأر من حماس التي ضيّقت الخناق على الجهاديين وقتلت عددًا منهم واعتقلت آخرين لكبح المزايدات عليها وتعزيز سيطرتها على القطاع وتحسين علاقتها مع مصر التي كانت قد تدهورت بعد ثورة يناير 2011.
المصدر صحيفة العرب