صهيب جوهر
كانَ واضحًا أنَّ القمّة العالميّة التي عُقدت في العاصمة الإدارية الجديدة بمصر للبحث في الحرب على غزّة، سيكون مصيرها الحقيقي فشلًا ذريعًا وغير مسبوقٍ، فالتمثيل الرسميّ غلبَ عليه المستوى الوزاري، وليس مستوى رؤساء وزعماء دول، إضافة للغياب اللافت للولايات المتحدة الأميركية، فقد سبقها إلغاءُ القمّة الرباعية في الأردن، التي كانت ستناقشُ خريطة طريق ببنود محدّدة لتسوية سياسية تُوقف شلالَ الدم الجاري في غزّة، لكنّ إسرائيل- التي استهدفت المستشفى المعمداني بمجزرة وحشية- أرادت تعطيلَ أيِّ مفاعيل للقمّة؛ لأنّها قد تعتقد أنّها قادرة على تثبيت التداعيات السياسيّة بعد استكمال حربها العسكرية.
لذا، كان واضحًا أنّ الظروف لم تنضج بعدُ للوصول لحلّ سريع، وسط تناقض واضح بين فريقَين بشأن الحرب:
الأوّل تسعى إليه إدارة الرئيس جو بايدن، وتقف معها دول غربية وعربية، تأمل في إنهاء دور حركة “حماس”، دون أن يعني ذلك تصفية الحضور الفلسطينيّ، وبالتالي الذهاب إلى حلّ الدولتَين من خلال السلطة الفلسطينية، وهذا ما قصدته الدول المعنية بدعوة محمود عباس لحضور قمّة عمّان،
أمّا الثاني فتقودُه حكومة اليمين المتطرف برئاسة نتنياهو، قوامه إحداث عملية تهجير لفلسطينيي غزّة إلى صحراء سيناء، يتبعها خطوات لاحقة لتهجير جزء أساسي من فلسطينيي الضفة إلى الأردن؛ تمهيدًا للذهاب إلى أحادية ونهائية الدولة اليهوديّة.
لذا، فإنّ فشل قمّة القاهرة كان منطقيًا، بانتظار ما سينتج عن العمليات العسكرية في غزّة، والتي من المرجّح أنّها مستمرّة لأجل غير مسمّى، وقد تكون النّتيجة الوحيدة التي سعت القاهرة لتحقيقِها تتلخّص بسعيها لاستعادة دورها المحوريّ في المِنطقة من خلال احتضانِها قمة عربية- أوروبية مشتركة، وسَعت حكومة السيسي إلى إصدار بيان للتعويض عن الفشل في الاتفاق على إصدار بيان ختاميّ في ظلّ تباينات متتالية.
وهو ما يعني أنّ الكلام سيبقى للمعركة وللتطوّرات العسكرية في شمال غزّة، مع تحضيرات إسرائيلية تشي بأنَّ الهجوم البَريّ سيطول لأشهر، رغم كلّ التحذيرات الأميركية- لا سيما على لسان بايدن، ومستشار الأمن القومي جاك سوليفان- من أنّ الذهابَ إلى عملية برية خطأ كبير، إلا أنّ الحكومة الإسرائيلية تعتقد أنّ الحرب هي السبيل الوحيدة، لاستعادة ثقة سكّان الغِلاف عبر استعادة منظومة الردع الإستراتيجي، وهو ما يدفع بالشّروع في الحملة البَريّة مُكلفة النتائج.
من المتوقع أن تستمر إيران بهجماتها، لكن في إطار قواعد اشتباك متعارف عليها، لكنّ هذه القواعد قد تتحوّل في لحظة إلى سراب، إذا بادرت إسرائيل إلى ضرب حزب الله في لبنان مع تسريبات بأنَّ هذا ما يدفع إليه وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت باعتباره الخطر الأكبر من “حماس”
وباتَ الجميع في العالم ينتظرون بدءَ الحملة البرية، رغم القناعة الواسعة بأنّها ستؤدّي إلى خسائرَ كبيرة في صفوف قوّات الاحتلال ومُشاته ومجموعات النّخبة القتاليّة، لأنَّ الدخول إلى ميدان غزّة وَفق الخبراء العسكريّين هو غرق محتّم في رمال متحركة، وهو ما تراهن عليه واشنطن لجذب الحكومة الإسرائيلية للقَبول بتسوية سياسية تقوم على أساس حلّ الدولتَين.
ثمة تأكيدات مستمرّة توحي بتململ في صفوف الشارع الإسرائيليّ على اختلاف توجّهاته السياسية والدينية، والأكيد أنّ الدخول في حرب خاسرة- يتكبّد فيها الجيش خسائر بالأرواح والمعدّات والتقنيات- سيزيد تقلّب المزاج، مع استطلاعات تشير إلى أنَّ نصف المجتمع الإسرائيلي غير متيقنٍ من أهمية الانخراط في عمليّة عسكريّة برية تزيد طعمَ الهزيمة، وتجبر الجيش على تحمّل صفعة ميدانية غير مُتخيلة، في ظلّ خشية سكان الغلاف من العودة إليه في المُستقبل؛ خوفًا من تسلّل مستمرّ لعناصر “حماس”.
الجبهة اللبنانية
فيما الجزء الأهمّ من التفكير الإسرائيلي- المرتبط بتداعيات الغزو البري- مرتبطٌ بمسار التطوّرات الجارية من جبهة لبنان الجنوبية، مع تحرك الساحات المنضوية تحت سقف مشروع: “وَحدة الساحات” والذي تقوده إيران وحزب الله، وأمَّا الضرباتُ التي جرى توجيهُها في شمال فلسطين أو ضد القواعد الأميركيَّة في شرق سوريا، فتهدفُ إلى التّحذير المسبق من ردّ كبير وغير متوقّع في حال جرى استهدافُ حزب الله بشكل أوسع في لبنان.
غيرَ أنّ تلك الضربات كانت محدودة وغير قوية وليست موجّهة- وخاصةً أنَّ المسيرات التي استهدفت القواعد الأميركية ليست من النوع المحدث والمتطور- ما يعني أنّ إيران أرادت توجيه رسائل تحذيرية، لكن هذه الهجمات غير الموجّهة، أدّت إلى استنفار واسع؛ تحسبًا لأي استهداف جديد أكثر قوة، مع تراجع في حركة المروحيات، ووقف الدوريات، وتقليص الحركة إلى الحد الأدنى، والطلب من الحلفاء الأكراد في المنطقة تكثيف حركة المراقبة البرية والحدودية.
وسعت واشنطن إلى تعزيز قوّاتها في شرق سوريا براجمات صواريخ من “هيمارس”، ومجموعات من بطاريات مدفعية ومدرعات معززة بمضادات للمدرعات، وذلك بالتزامن مع إعلان وزارة الدفاع الأميركية عن إرسال منظومة الدفاع الجوي الأكثر تطورًا في العالم من نوع “ثاد”، مع تعزيز كَميات الباتريوت، رغم أنه من المتوقع أن تستمر إيران بهجماتها، لكن في إطار قواعد اشتباك متعارف عليها.
لكنّ هذه القواعد قد تتحوّل في لحظة ما إلى سراب، إذا بادرت إسرائيل حزب الله في لبنان أولًا مع توسيع لضرباتها تجاه مدن لبنانية أخرى، مع تسريبات توحي بأنَّ وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت يدعو لاستغلال الفرصة لضرب الحزب؛ باعتباره الخطر الأكبر من “حماس”، ويدعمه في هذا التوجّه مجموعةُ ضباط من الصف الأول في جيش الدفاع. لكن الإدارة الأميركية لاتزال ترفض توسيع الحرب تُجاه لبنان. وألمحَت واشنطن إلى أن إحدى رسائل زيارة بايدن لإسرائيل هي في إطار واضح، وهو منع توسيع رقعة التوتّر في مقابل المحافظة على الدعم الأميركي والغربي.
وطالب البنتاغون- من خلال فريق المستشارين العسكريين المتواجدين في غرفة العمليات الإسرائيلية- بضرورة إبقاء المناوشات الجارية عند الحدود مع لبنان تحت السقف المسموح به. وبالتالي الحرص على عدم تورط إسرائيل في رد فعل عسكري مبالغ فيه قد يمنح حزب الله الذريعة ويدفعه للدخول في الحرب، كما أنّ هذا هو موقف البيت الأبيض وليس فقط وزارة الدفاع ومستشارية الأمن القومي.
بالمقابل تشير الجهات الحكومية اللبنانية إلى أنّها سمعت من أطراف خارجية عن تفاهمات جرت بعيدًا عن الإعلام بين إيران والولايات المتحدة عبر دول وسيطة في المنطقة، عزّزت فكرة عدم الانزلاق إلى حرب إقليمية واسعة، وهذا يشمل بقاء ضربات حزب الله ضمن القواعد الجغرافية المعقولة، وصولًا إلى إعادة إحياء المفاوضات على الملف النووي في حال التجديد للديموقراطيين في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
لكنّ هذه التفاهمات لا تعني ترك الجبهة الجنوبية في لبنان دون متابعة كثيفة، مع استمرار الاستنفار الحاصل لعناصر حزب الله والفصائل الفلسطينية في قرى حدودية، وهو ما يعني استمرار التوترات، ولكن ليس بهدف الذهاب نحو حرب شاملة، خاصة أنّ الولايات المتحدة تدرك أن حزب الله يلعب على حافة الهاوية بهدف إظهار دعمه “حماس”، لكنه في المقابل يحاذر السقوط في فخّ الحرب الإقليمية، نتيجة الظرف اللبناني المتدحرج أولًا، وإمكانية توجيه ضربات لمكامن قوته في لبنان وسوريا.
بالتوازي فإنّ جزءًا مهمًا من تفكير واشنطن يكمن في منع موسكو من استغلال الوضع القائم، لتحسين موقفها في ذِروة انشغال الأميركيين، مع تعزيز موسكو منذ أيام وجود قواتها في مناطق سوريّة متعددة، وتحديدًا في الساحل السوري المفتوح على كل الاحتمالات.
هذا، مع تزويد مجموعات نظاميّة سورية بالعتاد والتدريب لتصبح بمرتبة الوحدات الخاصة، لا سيما بعد نجاح تركيا في الحدّ من قوة وانتشار قوات سوريا الديموقراطية، وسَعي أنقرة إلى تعزيز حضورها الميداني، وهو ما يمكن أن يكون على حساب موسكو ونفوذها مع انشغالات إيران في المعركة الحاصلة في غزة ولبنان. لذلك تحضّر روسيا مع الجيش السوري لشنّ عملية عسكرية للسيطرة على طريق M4 الذي يربط حلب باللاذقية.
في النّهاية فإنّ معركة العبور “طوفان الأقصى” باتَت تهدد المنطقة بالدخول في نفق طويل الأمد وسط أخطار تصاعد الاشتباك واستغلال الانشغالات الدولية، ما قد يعقد الحلول، وهو ما يشكّل ضربة قاصمة لسعي الإدارة الديموقراطية لإعادة رسم خريطة النفوذ السياسي في المِنطقة عبر الطرق الديبلوماسية؛ ولسعيها للانسحاب لاحقًا من المنطقة ومشاكلها، لكن يستحيل ضبط إيقاعات الشرق الملتهب مهما بدا ذلك ممكنًا.
نقلاً عن الجزيرة نت