محمد جميل أحمد
كاتب سوداني
حين تصعد بنايةً في أحد الأحياء الشعبية لمدينة القاهرة، يتكرر على سمعك داخل المصعد صوتاً آلياً ينبعث منه دعاء ربّما ظنّ كثيرون أنّه دعاء “ركوب المصعد” لشدة تكراره اليومي لعشرات المرات، ركوباً وصعوداً، من أهل البناية، فيما هي آية تتضمن دعاء مأثوراً لركوب الدابة أو نحوها: (لِتَسْتَوُوا عَلَىٰ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) “الآية 13 من سورة الزخرف”.
وبمجرد خروجك من المصعد في تلك البناية أو غيرها، تسمع الصوت الآلي ذاته، يردّد عبارة “بسم الله” في دلالة واضحة تعكس ما وصلت إليه تلك المجتمعات في التديّن القلق عبر العادات الجديدة المصنوعة لذلك التدين!
وبالرغم من أنّ مفهوم الآية واضح في الأمر بصيغة المضارع في قول الله تعالى “وتقولوا..”، ما يعني أنّ المطلوب هو القول المتجدّد باللسان والمتصل بحالات الركوب المتجددة، إلا أنّ الصوت الآلي، بدلاً من أن يكون تذكيراً بقول الدعاء وتنبيهاً للإنسان ليردّده؛ يصبح هو الدعاء ذاته، فيكون الذاكر، في هذه الحالة هو المصعد، وليس الإنسان العاقل المطلوب منه ذكر هذا الدعاء!
وحين تصبح عملية التذكر المتصلة بالفعل الإرادي للإنسان، كدلالة حيوية مستمرة على شكر نعمة الله، عز وجلّ، من ذاته الواعية؛ أداءً صوتياً آلياً، لا يتحقق الفعل المراد من الله، عز وجلّ، للإنسان في موقف الذكر المتصل بتلك الحالة تحديداً.
ربما يتساءل البعض ما دلالة هذه الحالة المخصوصة بقلق التدين وصناعته؟ والجواب في تقديرنا هو، أنّ طبيعة الحالة ذاتها تعكس دلالتها في سياق المناخ الاجتماعي للتدين الذي تخضع له المجتمعات العربية اليوم؛ إذ يضعنا التأمل في تلك الحالة، بصورة من الصور، أمام مقولة: “زمن دين بلا ثقافة” التي جعلها الباحث الفرنسي أولفييه روا عنواناً فرعياً لكتابه الشهير “الجهل المقدس”!
فإذا كان من طبيعة تكرار العبارات العادية، في سياق تداولها بين الناس، أن يكون أقرب إلى الترداد الآلي في أقوال البشر ذاتهم؛ فإنّ تلك الحالة المجتمعية حين تتواطأ على قبول صيغ عمومية للأدعية المأثورة من خلال آلات سماع مصنوعة تنصب على المصاعد؛ هي بالضرورة تعبير لاواعٍ عن مزاج عام لتمثيلات السلوك الديني (لا تمثـُّلاته)، وبطبيعة الحال؛ إن الفرق هنا جوهري بين عمليتي التمثيل والتمثّل! ففي سياق تأمل الفرق بين العمليتين، سندرك تماماً أنّ التمثيل هو فعل حكائي تقليدي يعكس غياباً للوعي والإدراك اللذين تقتضيهما عملية التمَثّل لأنّ عملية التمثل هي اشتغال واع بكيفية الفعل والترك في قيم التدين العاقل.
والحال فإنّ التمثيل هنا، أيضاً، ضمن مجالات التقليد المجتمعي واشتغالاته، يضمر حالة من القلق وتشظي الهوية والخوف الذي يوشك أن يكون رهاباً، ويكشف كذلك، في التمثيلات التي ينتجها المجتمع، وهو يمارس تدينه المصنوع، غياباً واضحاً لمفهومين أساسيين هما: المعرفة والحرية.
ففيما تمنحنا الحرية قدرةً على اتخاذ الخيارات الواعية، وتنظيماً للإرادة الفاعلة في هوية الفعل والترك خلال ممارسات التدين، تمنحنا المعرفة قدرةً على تمَثُّـل العقلنة في ذلك التدين وتأسيس آفاق تأويلية راشدة عبر خيارات متعددة في الحياة تكرس إنتاج المعنى من خلال تسكين التناقضات، وتدبير صيغ وتوافقات تحرر القيم الإيجابية للتدين العاقل من شروط التخلف.
وإذا كان من شأن إدارة التقليد أن يعيد إنتاج نفسه الى ما لانهاية (لأنّ التقليد مثل الأيدلوجيا إطار نسقي مغلق)، فإنّ ممارسات التدين المصنوع، التي هي نتاج تمثيلات أيدلوجية لمفردات ما سمي بظاهرة الصحوة الإسلامية (التي اشتغلت عليها حركات الإسلام السياسي، مع مرور الزمن، وتمكنت من تطبيعها في بنية المجتمعات العربية) ستكون العائق الأكبر عن رؤية التدين العاقل الذي يقوم على شَرْطي المعرفة والحرية، وهما بالضبط ما تحتاج إليهما اليوم مجتمعات المنطقة العربية.
وبين الخوف من الحرية، والخوف من تجريب المعرفة، خوفاً من تجديد تجارب الفشل والانكسارات والهزائم التي مرت بها المجتمعات العربية عبر التجريب المتخلف للحداثة السياسية، لجأت تلك المجتمعات إلى هذا التدين المصنوع، الذي سوّقته لها حركات الإسلام السياسي، فكانت ردود فعلها هي تلك التمثيلات اللاواعية التي بدت لها ملاذاً خادعاً، جسّد خوفها من مغامرة التجريب في الحرية والمعرفة .
هذا، إلى جانب تمثيلات أخرى أكثر عنفاً ودمويةً لحركات الإسلام الجهادي التي ذهبت بتخلفها وجهلها إلى حدود لا يمكن أن يتصورها عاقل، في العالم الحديث، مثل داعش والقاعدة، وغيرهما.
بطبيعة الحال، حين تتماثل الظواهر المجتمعية وتختلط إلى حد الالتباس، على البعض، في ما إذا كان تعبيرها عن الدين، تديناً مصنوعاً أم تديناً عاقلاً؛ سيكون الكشف والتفتيش عن سوية المعرفة والحرية في تلك الظواهر التي ينتجها المجتمع، هو الضابط الحقيقي في الفرق بين التدين المصنوع والتدين العاقل، حتى وإن ظن ذلك البعض، بكل براءة، أنّ في ظاهر تلك العادات المجتمعية المصنوعة تديناً ما، أو حسبه كذلك.
نقلاً عن حفريات