طارق أبو السعد
كاتب مصري
لطالما سعى الإخوان المسلمون إلى صنع أمجاد موهومة لحسن البنا، مؤسس الجماعة، فدائماً لديهم روايات مختلقة تمجّد شخصه وترفع من مكانته، يدّعون أنّ خصومه شهدوا بها، ويدوّنونها في كتبهم بأكثر من صيغة، ويحكونها شفهياً في لقاءاتهم، ويرددونها ملايين المرات على أسماع أتباعهم ومؤيديهم، حتى يظنّ المستمع أنّها حقيقية، وما هي إلا حيلة خبيثة يتبعونها ليصنعوا مجدهم ولو بالباطل، يراهنون على نسيان الناس للحقيقة، أو على موت من شهد الوقائع ويعرف الأسرار، وعلى أمل أن تأتي أجيال تالية؛ لا تجد إلا حكايات الإخوان، فتتلقاها على أنّها صحيحة، ومن ثم تصبح تاريخاً مسلّماً به.
ولعلّ من أشهر “الوقائع” المزعومة التي يحكيها الإخوان عن مؤسس جماعتهم؛ لقاءه المزعوم بالدكتور طه حسين، هذا اللقاء الذي تم في خيال الإخوان فحسب، وهذه الحكاية، بقليل من التمحيص، ستكتشف أنها مختلقة بالكلية.
تقول الرواية المنحولة في كتاب “الإخوان المسلمين.. أحداث صنعت التاريخ”، لمحمود عبد الحليم، ص 244: إنّه “لما نشر طه حسين كتابه “مستقبل الثقافة في مصر”، وضمّنه ما يجب أن تتجه إليه الثقافة في مصر من ضرورة الأخذ بالحضارة الغريبة: خيرها وشرّها، حلوها ومرّها، هاجت الدنيا وماجت، وتناولت أقلام النقاد الكاتب بين قادح ومادح، ولم يكترث طه حسين بكلِّ ما كُتب، وصمّم على وضع آرائه في الكتاب موضع التنفيذ باعتباره مستشار وزارة المعارف، وهنا اتصل بعض الغيورين من أصدقاء الشيخ حسن البنا به، وطلبوا منه أن يكتب نقداً للكتاب، وردّ الشيخ حسن البنا بأنّه لم يطّلع على الكتاب لضيق وقته وكثرة الصوارف، فأبدوا اعتراضهم: كيف لم تقرأه وقد طبع من أربعة أشهر فقط! وألحّوا عليه بضرورة قراءة الكتاب، وبيان كلمة الإخوان قبل أن يوضع الكتاب موضع التنفيذ، لا سيما أنّه سيؤدي إلى تغيير جذري في سياسة البلد الثقافية، ولم يكتفوا بذلك، بل أخبروه أنهم حددوا موعداً لبيان ذلك في دار الشبان المسلمين وطبعوا الدعوات، وكان الموعد بعد خمسة أيام، ولم تمض الأيام الخمسة حتى كنت قد استوعبت الكتاب كلّه”.
ويتابع: “وفي الموعد المحدد ذهبت إلى دار الشبان، فوجدتها على غير عادتها غاصة، والحاضرون هم رجالات العلم والأدب والتربية في مصر، ووقفت وإلى جانبي الدكتور يحيى الدرديري، السكرتير العام للشبان المسلمين، ورأيت الكتاب كله مطبوعاً في خاطري بعلاماتي التي علمتها عليه بالقلم الرصاص”.
ويمضي البنا في سرد بطولته لمحمود عبد الحليم فيقول: “وبدأت أول ما بدأت، فقلت: لن أنقد هذا الكلام من عندي وإنما سأنقد بعضه ببعض، وأخذت -ملتزماً بهذا الشرط- أذكر العبارة من الكتاب، وأعارضها بعبارة أخرى من الكتاب نفسه، ولاحظ الدكتور الدرديري أنّني في كل مرة أقول: يقول الدكتور طه في الكتاب في صفحة كذا، وأقرأ العبارة بنصها من خاطري، ثم أقول: ويناقض الدكتور طه نفسه فيقول في صفحة كذا، وأقرأ العبارة بنصها أيضاً من خاطري، فاستوقفني الدكتور الدرديري، وطلب إلي أن أمهله حتى يحضر نسخة من الكتاب ليراجع معي النصوص والصفحات، وجيء له بالكتاب وظلّ يتابعني، فيجد العبارات لا تنقص حرفاً ولا تزيد حرفاً، فكاد الدكتور الدرديري يجنّ، كما ساد الحاضرين جوّ من الدهشة والذهول، وهكذا حتى انتهى الكتاب، وانتهت المحاضرة”.
ويضيف: “ولما هممت بالانصراف، رجاني الدكتور الدرديري أن أنتظر برهة؛ لأنّه يريد أن يسرّ لي حديثاً، واقترب مني وأسرّ في أذني سرّاً تعجبت له، قال: “لما نشرنا عن موضوع محاضرتك وموعدها اتصل بي الدكتور: طه حسين، وطلب إليّ أن أعدّ له مكاناً في هذه الدار، يستطيع فيه أن يسمع كل كلمة تقولها، دون أن يراه أو يعلم بوجوده أحد، فأعددنا له المكان، وحضر المحاضرة من أولها إلى آخرها، ثم خرج دون أن يراه أو يعلم به أحد”، وفي اليوم التالي: طلب الدكتور طه حسين من أحد موظفي وزارة المعارف، أن يرتب له اجتماعاً مع الشيخ حسن البنا في أيّ مكان، دون أن يكون معهما أحد، ودون أن يعلم بهما أحد، وليكن هذا المكان في بيته أو بيتي، أو في مكتبي هنا، ووافق الشيخ حسن البنا، ورأى أن يكون الاجتماع في مكتبه بالوزارة، وتمَّ الاجتماع، وبدأه الدكتور طه حسين بقوله: لعلك، يا أستاذ حسن، لا تعلم بأنني حضرت محاضرتك، وبأنني كنت حريصاً على حضورها، وعلى الاستماع إلى كل كلمة تقولها، لأنني أعرف من هو حسن البنا، وأقسم لك لو أنّ أعظم عظيم في مصر كان في مكانك ما أعرته اهتماماً، قال الشيخ حسن البنا: فشكرته، ثم سألته عن رأيه في المواضع التي وجهت النقد إليها في الكتاب، وهل لديه من ردّ عليها؟ يزعم حسن البنا أنّ الدكتور طه حسين قال له: ليس لي ردّ على شيء منها، وهذا نوع من النقد لا يستطيعه غيرك، وهذا هو ما عناني مشقة الاستماع إليك، ولقد كنت أستمع إلى نقدك لي، وأطرب…، وأقسم يا أستاذ حسن؛ لو كان أعدائي شرفاء مثلك لطأطأت رأسي لهم، لكن أعدائي أخسَّاء، لا يتقيدون بمبدأ ولا بشرف، وقد ظنوا أنهم يستطيعون أن يمحوا اسمي من التاريخ، وقد كرّست حياتي لإحباط مكايدهم، وها أنا ذا، بحمد الله، في الموضع الذي تقطع أعناقهم دونه، ليت أعدائي مثل حسن البنا، إذاً لمددت لهم يدي من أول يوم”.
تفنيد هذه الرواية سهل جداً؛ فأولاً: هذه الرواية ليس عليها شهود إلا محمود عبد الحليم، حتى حسن البنا نفسه لم يذكرها في مذكرات “الدعوة والداعية”، ثانياً: لم تذع هذه المقابلة المزعومة إلا بعد موت طه حسين، وهو الطرف المهم في الرواية، فقد نشرها محمود عبد الحليم، للمرة الأولى، العام 1978، وطه حسين توفّي في 28 تشرين الأول (أكتوبر) 1973، ثالثاً: لم يجرؤ أيّ من الإخوان على مواجهة طه حسين بها، أو تذكيره بانبهاره بحسن البنا، عندما كتب مقالته ضدّ الإخوان، العام 1954، بعنوان “هؤلاء هم الإخوان”، رابعاً: الرواية تزعم أنّ الكتاب نشر من أشهر قليلة، وهذا الحديث دار بين البنا وتلميذه محمود عبد الحليم في الربع الأول من العام 1940، أي بعد نشر الكتاب بعامين، فأول طابعة كانت العام 1938.
أما عمر التلمساني، المرشد الثالث للإخوان المسلمين، فيسرد تلك الحكاية لكن بتفاصيل أخرى، في كتابه “الملهم الموهوب”، ص 37، ووضع تفاصيل في الروايتين تنسفان بعضهما البعض، فعمر التملساني يجعل حسن البنا هو الذي يتقدم بطلب للجامعة، يتناقض مع الرواية السابقة، ثانياً الجامعة هي مقر المحاضرة، وليست جمعية الشبان المسلمين، ثالثاً: يزعم عمر التملساني أنّ الجامعة رفضت إقامة المحاضرة لأنّ الطلب وُقِّع باسم المرشد العام للإخوان المسلمين، ويزعم أن حسن البنا تنازل عن اللقب من أجل المحاضرة.
أخيراً: أكبر دليل على عدم صحة هذه الحكاية؛ أنّ الروايتين اتفقتا في أنّ البنا أعد ردّاً مفحماً لفكر وكتاب طه حسين، فأين هذا الردّ؟ لماذا لا نجد له أثراً؟ كيف لم يدوّن الإخوان ردّاً كهذا؟ وحرموا الأمة من معرفة تلك الجمل المتناقضة؟ ولم يفسدوا مخطط طه حسين لإفساد الأجيال؟! هل يعقل أن يغفل الإخوان عن تدوين الردّ الذي أسكت طه حسين نفسه؟! على طول تاريخ الإخوان لن نجد هذا الردّ؛ لأنّه، وببساطة، لا يوجد، ولم يوجد، وهذه الحكاية مختلقة تماماً!
نقلاً عن حفريات