طارق أبو السعد
كاتب مصري
الجاهلية (المعاصرة) مصطلح قطبي بامتياز، ينسب إلى سيد قطب؛ صاحب أكبر تأثير في التيارات الإسلاموية التكفيرية، والمقصود بالجاهلية في فهم سيد قطب؛ أنّ المجتمعات المسلمة ارتدّت سلوكياً إلى مرحلة ما قبل الإسلام، بالتخلي عن تطبيق كتاب الله في المعاملات، وبالتنصل من الاحتكام إلى كتاب الله في الحكم والتشريع، ومَن يصرّ على التخلي والتنصل فقد ارتدّ عقائدياً إلى الجاهلية، دون هذا في أكثر من موضع، في كتابه الأشهر “في ظلال القرآن الكريم”؛ الذي يرسّخ معنى واحداً؛ هو “إما إسلام وإما جاهلية، إما إيمان وإما كفر، إما حكم الله وإما حكم الجاهلية”، وأنّ الذين لا يحكمون بما أنزل الله هم الكافرون الظالمون الفاسقون، والذين لا يقبلون حكم الله من المحكومين ما هم بمؤمنين.
غني عن البيان؛ أنّ انتشار مفهوم الجاهلية ترتب عليه اندفاع الشباب في تكفير مجتمعاتهم ومن ثم أحلّوا دماءها المصونة، ومن الجاهلية إلى الحاكمية إلى قتال الفئة الممتنعة، دخلنا في دوامة التكفير والتقتيل، التي لم نخرج منها إلى الآن، ربما في مقال آخر نشير إلى كمّ المغالطات التي وقع فيها سيد قطب، ونشير إلى حجم الردود عليه.
لكن من المهم الكشف، أولاً، عن بداية هذا المصطلح وولادته؛ معلوم أنّ “أبو الأعلى المودودي” هو صاحب مصطلح الجاهلية بمفهومه “الجديد”؛ حيث وضع فكرته الأولى في كتاب “الإسلام والجاهلية”، الذي كتبه العام 1941، لكنّ أفكار المودودي ظلت أسيرة المجتمع الهندي، ولم تنتعش هذه الأفكار إلا عندما بلغت العالم العربي، لكن كيف وصلت إلى المجتمع العربي، والمصري تحديداً؟ ومَن أول من نادى بها صراحة قبل أن يتلقّفها سيد قطب؟
وقع في يدي أعداد لمجلة “المسلمون”، في صيغة (pdf)، فوجدت أنّ مصطلح الجاهلية بمدلولاته الغريبة يتردّد على لسان الأستاذ حسن الهضيبي، المرشد الثاني للإخوان المسلمين، المرشد الذي لطالما تاه الإخوان به فخراً، باعتباره أكثر جيله اعتدالاً.
الهضيبي؛ الذي يرفع الإخوان كتابه “دعاة لا قضاة”، في وجه من يحاورهم، مستشهدين به كرجل معتدل ضدّ التكفير، وضدّ الحكم على الناس، لكنّ الحقيقة أنّه هو أول من صرّح بجاهلية المجتمع المصري مبكراً، وقبل سيد قطب.
في مقالته في مجلة “المسلمون”؛ التي كان صاحب امتيازها ومؤسّسها ورئيس تحريرها سعيد رمضان (زوج ابنة حسن البنا)، التي كان أحد أهم كتّابها: محبّ الدين الخطيب، معلم ومرشد البنا الأول؛ نجد مقالاً كتبه حسن الهضيبي، في عدد ربيع الأول 1372 الموافق تشرين الثاني (نوفمبر) 1952، تحت عنوان “إنّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم”: “قرأت فيما قرأت، أنّه وقعت حادثة قتل في إحدى قرى مديرية الشرقية في زمن محمد علي، فألّف لها محكمة خاصّة لتحقيقها والحكم فيها، فوقفتُ عند هذه الحقيقة أتأمّلها: حادثة واحدة، يؤلّف لها الحاكم محكمة خاصّة، واليوم محاكم الجنايات مقامة في كلّ مديرية (أي محافظة بمصطلحات اليوم)، وتفصل في قضايا القتل التي لا تعدّ بالآحاد؛ بل تعد بالعشرات، وأصبح القضاة لا ينفعلون بهذه الحوادث، ولا يهتمون بها، ويحكمون فيها كأنها مسائل عادية لا توجب الفزع ولا الاهتمام، وقلّ أن يحكم في واحدة منها بالقصاص؛ بل يحكم فيها بعقوبات تافهة لا تشفي الغليل، وقفت أمام هذه الحالة، وتأمّلتها، فوجدت الناس قد عادت إلى جاهلية مظلمة؛ فالقاتل لا يقتل، بل يتهم غيره، والمحكمة لا تحكم بالقصاص” انتهى.
ويكتب في العدد الأول من السنة الثانية؛ أي في ربيع الأول 1373 الموافق تشرين الثاني (نوفمبر) 1953، تحت عنوان “هذا القرآن”: “كانت السيارة تطوي بنا الأرض، ونحن ننتقل بين قرى صعيد مصر لزيارة شعب الإخوان المسلمين، وكنا نتبادل الملاحظات على سير دعوة الإسلام واستجابة الناس لها، ووددنا لو أنّ الناس كانوا في ذلك سواء، فاستجابوا لها، وعلموا أنّ أكثرهم لم يكونوا مسلمين إلا بالاسم” انتهى.
نلاحظ في المقال الأول؛ أنّ الهضيبي يتهم الناس صراحة بالجاهلية، لماذا؟! لأنّهم يقبلون بحكم المحكمة في القاتل، ولا يطالبون بالقصاص، وفي المقال التالي؛ نجده يؤكد على المعنى ذاته، فيتهم المسلمين بأنّهم مسلمون بالاسم.
ليس مهماً ما إذا كان المفهوم الذي دشّنه أبو الأعلى المودودي متشابهاً في كلمات حسن الهضيبي أم لا؛ بل أنّ معاني ودلالات مفهوم الجاهلية متجذرة ومتأصلة في وجدان الهضيبي ونفسه، وأنّها لم تأتِ على لسانه، أو في مقاله، عفوياً، بل واضح أنّها فكرة يؤمن بها الإخوان، حتى هؤلاء الذين يوصفون بالاعتدال.
خطورة مقال الهضيبي؛ تكمن في أنّه جاء في مجلة إسلامية، ظلّ الكثير يروّج لها على أنّ كتّابها معتدلون، ومنها تسربت مفاهيم الحاكمية والجاهلية.
إنّ فكرة تجهيل المجتمع لم تكن وليدة أفكار غريبة تبناها سيد قطب، كما يدّعي البعض، ولا أزعم أنّ الهضيبي كان متأثراً بالمودودي؛ بل هو تلميذ نجيب في مدرسة حسن البنا، وما جاء على لسانه إنما هو ثمرة أفكار البنا، قبل المودودي.
فأوّل من رأى أنّ المسلم لا يكتمل إسلامه إلا إذا كان سياسياً؛ هو حسن البنا، في مؤتمر الطلبة، المنعقد في 20 شباط (فبراير) 1938، إذ قال صراحة: “بعد هذا التحديد العام لمعنى الإسلام الشامل، ولمعنى السياسة المجردة عن الحزبية؛ أستطيع أن أجهر صراحة بأنّ المسلم لن يتم إسلامه إلا إذا كان سياسياً”، البنا، بهذا الكلام، وإن لم يصرّح بتكفير، أو تجهيل المجتمع، إلا أنه وسم الناس، أكثر من مرّة، بأنّهم لا يفهمون دينهم، ومن لم يفهم شيئاً فقد جهله.
إنّ أفكار الهضيبي التي سكبها في مجلة “المسلمون”، هي نتاج أفكار حسن البنا، وإن تشابهت مع أفكار المودودي؛ فالقارئ لمقالات ورسائل البنا سيكتشف أنّه كان يؤكد معنى واحداً؛ هو أنّ المسلمين لم يعودوا مسلمين، إلا بالاسم، وأنهم لا يفهمون دينهم، وهم جاهلون به، وأنّ الإخوان هم فقط من فهموا الإسلام على حقيقته.
وبذلك تشبّعت نفوس أتباعه بالفكرة، فنطقوا بها وكتبوها فكراً، وبحثوا عن تأصيلها شرعاً، وعن تفريعاتها، دونما أيّ ضغوط أو ظروف استثنائية؛ بل على العكس، عبروا عمّا بحقيقة مكنون صدورهم، حين شعروا بالتمكين من المجتمع، والوصول للحكم، فلعلّك انتبهت، صديقي القارئ، إلى أنّ مقالات الهضيبي الواضحة، كانت في عامَي 1952 و1953، وقت ثورة يوليو، التي كانت وليدة آنذاك، والإخوان آنذاك كانوا يملؤون السمع والبصر، وفتحت لهم الصحف ليقولوا فيها ما يشاؤون، ولم يكن أيّ منهم مضطهداً في السجون بعد؛ بل كانت هي لحظتهم الفريدة التي اقتربوا فيها من الحكم، فأفصحوا بمكنون نفوسهم، وحكموا على المجتمع بأنّه جاهلي.
نقلاً عن حفريات