أحمد بان
كاتب مصري
في ظلّ حصار مظاهر غياب الأخلاق، أو بالأحرى غياب الحدّ الكافي منها لحفظ سلام مجتمعاتنا وأمنها، يجب أن نسأل: هل ثمة علاقة بين تصورنا للأخلاق وتصورنا للدين والعلاقة بينهما؟ بمعنى آخر؛ ما هي دائرة الإلزام في حياتنا؟ ما الذي يحدد لعقولنا وقلوبنا الحسن والقبيح، الحلال والحرام، اللائق وغير اللائق؟ وهل الباعث على تبنّي البعض منّا لمنظومة أخلاقية ما انطلاقها من الدين، أم أنّ تصورنا للأخلاق مقطوع الصلة بالدين؟
يجب أن نعرف بداية ما هي الأخلاق؛ هل هي تلك القيم الإنسانية التي عرّفها البعض بأنّها غايات يطلبها الإنسان لذاتها، ومن شأنها أن تؤدّي إلى مقاصد سامية تتمثل في تحقيق السعادة للأفراد والجماعات؟
لقد أجمع كثير من الباحثين على أنّ القيم الإنسانية تنظمها ثلاثة عناوين، أو قيم أخلاقية؛ هي: الحقّ والخير والجمال، وربما أضاف البعض لهما النزعة الدينية، فيما عدّ آخرون هذه النزعة مجرد اتجاه نحو القيم الأخرى، وثمة من رأى أنّ هذه النزعة للتدين تأتي متصلة بالقيم الكبرى المذكورة.
إنّ الدين هو الذي يوجه الإنسان نحو هذه القيم الثلاثة ويبلورها، من خلال التصور الاعتقادي لها؛ بأن يجعلها جزءاً لا يتجزأ من عقيدة الإنسان الدينية.
قد يقود هذا التصنيف إلى سؤال آخر: عمّا إذا كانت هذه القيم معاني عقلية؟
بطبيعة الحال؛ هناك شبه إجماع على أنّ للأخلاق بعدين؛ الأول ذاتي يتعلق ببنية الإنسان النفسية والعقلية والاجتماعية، والآخر موضوعي يتعلق بالقيمة الأخلاقية، وموقعها داخل البناء العقدي الذي يعتقده الإنسان، أو ما يمكن تسميته بالمنظومة الأخلاقية المختارة بصرف النظر عن مصدرها.
تخبطت المذاهب الفلسفية الوضعية في وصف الأخلاق؛ بين أنّها تأتي ترجمة حرفية لاختيارات المجتمع بشكل مطلق، دون قيد أو شرط، وبين من جعل العرف واختيار المجتمع من بين أدلة الأحكام أو نسيج الأخلاق، يقول الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾، في تأكيد على حضور التجربة البشرية كمصدر من مصادر الاختيارات الأخلاقية للمجتمعات، وبعيداً عن المذهب العاطفي، أو مذهب نيتشه، مذهب القوة في تحديد الباعث على الأخلاق.
في الإسلام؛ الأخلاق ثمرة للدين، يقول الرسول الكريم: “من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، فلا صلاة له”، ويقول الحقّ تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾، الشعيرة، أو الطقس في الدين، ليست مقصودة لذاتها؛ إنّما هي وسيلة لبلوغ غاية أسمى؛ فالله تعالى لم يأمر عباده بالصوم تعذيباً لأبدانهم وتلذذاً بحرمانهم من الطيبات؛ بل لتربية نزعة التقوى بسلوك عملي يلتصق بوعيهم وضمائرهم، يقول الله عزّ وجلّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾؛ هكذا حرص الإسلام على ربط مكارم الأخلاق بأصل الدين، كما يقول الرسول الكريم: “إنّما بعثتُ لأتمّم مكارم الأخلاق”؛ فالدين، إذاً، المصدر الأهم لإصلاح أخلاق الناس، وتحديد خياراتهم الصحيحة، ووظيفة الدين، كما يقول دوركايم، لا تقتصر على حماية الأخلاق؛ بل على رعايتها وتعهدها في النفس والمجتمع معاً.
وإذا كان نيتشه ينفي وجود الأخلاق المستمدة من القيم والمبادئ والمثل العليا والفضائل الإنسانية، زاعماً أنّ الأخلاق تستند إلى اختيارات الأقوياء، وأنّ البقاء للأقوى، ووحدهم البشر الأقوياء هم الأناس الطيبون وهم أرفع وأرقى بموجب مكانتهم السامية، ولهم وحدهم الحقّ في خلق القيم وتحديدها، أما عن الضعفاء؛ فإنّ التزامهم بمكارم الأخلاق إنما هو تعبير عن شعورهم بالضعف واستسلامهم للعجز الحاقد على الآخرين.
بتأمّل نظرة أعظم الفلاسفة إلى الأخلاق؛ نعلم أيّة هاوية تردى لها الجنس البشري، حين فصل الأخلاق عن أصلها الإلهي، الذي لا يتغذى على الأهواء والمصالح، والشهوات، أو نزعات الشياطين، من الإنس والجنّ.
تبقى الأخلاق، إذاً، جوهر الدين، ودونها نحن نتحدث عن لحاة دون لباب، هيكل دون حقيقة، اسم دون معنى أو مضمون.
وقد قدمت الأديان الإبراهيمية الثلاثة إطاراً أخلاقياً مشتركاً تجسّد في الوصايا العشر، التي أكدت على توحيد الله تعالى، وإفراده بالعبودية، والنهي عن عبادة الأصنام، وإكرام الوالدين، والنهي عن القتل أو السرقة، أو الزنا، وشهادة الزور، أو التطلع لما في أيدي إخوانك أو جيرانك.
وربما لو أخلص أتباع الديانات الثلاثة لتلك الوصايا، إخلاصاً لدينهم ومعتقدهم، ما عاشت البشرية ما تعيشه من أحوال هي نتاج تراجع سلطان الأخلاق، سواء كانت دوافعها دينية، أو اجتماعية، أو غيرها.
ورغم تلك الصلة الراسخة بين الدين والأخلاق، ورغم وضوح الأصل الإلهي للأخلاق، إلا أنّه لا يشرح واقعنا بصدق وعمق، كما وصفته كلمات المؤرخ، وول ديورانت، عندما تعرض لموقع الدين في حياة المصريين القدماء، ونحن بالطبع نضرب مثالاً عن واقع كثير من الأمم، وليس شعباً بعينه؛ فقد شاعت البلية.
ما يؤكده ديورانت؛ أنّ الأعراف الاجتماعية أو المصالح المادية تحلّ عادة محلّ الدين في توجيه سلوك الإنسان، وصناعة إطار لا أخلاقي خاص يدهس الأخلاق في طريقه.
يقول: “لقد كان الدين في مصر من فوق كلّ شيء ومن أسفل منه، فنحن نراه فيها في كلّ مرحلة من مراحله، وفي كلّ شكل من أشكاله، ومن الطواطم إلى علم اللاهوت، ونرى أثره في الأدب، وفي نظام الحكم، وفي الفنّ، وفي كلّ شيء، عدا الأخلاق”.
وما يزال الواقع يصدق مقولة ديورانت؛ فالدين يحضر في كلّ شيء في الحياة، الآن، إلّا في أخلاق الناس، رغم أنّ مقصود الدين الرئيس هو إصلاح أخلاق الناس، فمَن حوّل الدين من وسيلة لإصلاح الأخلاق وتحسين جودة حياتهم إلى أفيون مرة ومعوّق مرات؟! ربما هذا سؤال آخر.
نقلاً عن حفريات