كريتر نت – متابعات
تَحوُّلُ مفتي سلطنة عمان إلى صوت “ثوري” خارج عن سياق المواقف والسياسات الرسمية للدولة المعروفة بصرامتها إزاء معارضيها، يبدو أمرا غير منطقي ما يجعل المطلّعين على الشأن العماني يصنّفون المواقف القوية للمفتي كمتنفّس مبرمج ومتفق عليه لمنع تراكم الاحتقان داخل المجتمع المحافظ في أوقات الأزمات، على غرار الأزمة الناتجة عن حرب غزّة وما تثيره من مشاعر شعبية جياشة في المنطقة.
رحّب مفتي سلطنة عمان أحمد بن حمد الخليلي بقيام جماعة الحوثي باحتجاز سفينة شحن في مياه البحر الأحمر، في موقف يبدو محرجا لسلطات بلاده كونه يناقض التزاماتها الدولية وعلاقاتها مع دول العالم، بما في ذلك قواه الكبرى الحريصة على سلامة الملاحة البحرية التي تمثّل عصبا حيويا لاقتصادات العالم.
ومع ذلك استبعد المطلّعون على السياسة العمانية أن يكون موقف المفتي، الذي يعتبر موظّفا رفيعا بالدولة، مبادرة فردية وتلقائية، مؤكّدين أنّ “النفس الثوري” الذي يطبع مواقفه من عدّة قضايا، ليس سوى جزء من الدور الموكول له من قبل السلطات لإيجاد متنفّس يتمّ من خلاله التعبير عن مشاعر المجتمع العماني الذي يغلب عليه الطابع المحافظ، ومنع تراكم الاحتقان داخله جرّاء بعض سياسات الدولة التي لا تحظى بقبول شعبي بما في ذلك إقامتها علاقات متينة، وإن كانت غير رسمية، مع إسرائيل التي يدعم المفتي “جهاد” الحوثيين ضدّها.
وقال الخليلي في منشور على موقعه في منصّة إكس “نشكر من أعماق قلوبنا وخالص طوايانا الشعب اليمني العربي الأصيل المسلم الشقيق على خطواته الإيجابية في تصديه للسفن الصهيونية، فقد قال وصدق ووعد فوفى فلله درّه”. ودعا في منشوره “الشعب اليمني الشقيق كلّه إلى الالتفاف حول هذا المبدأ الديني العظيم في مناصرة المظلومين والمضطهدين من أشقائنا”.
ولا يسلم مفتي عمان في إبدائه موقفا صارما من إسرائيل من تناقض جوهري مع سياسة الدولة التي ينتمي إليها بشكل رسمي، والتي تحتفظ بعلاقات غير رسمية مع الدولة العبرية، لكنّها متينة ومتقدّمة بحسب ما أظهرته الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو سنة 2018 إلى مسقط حيث استقبل من قبل السلطان الراحل قابوس بن سعيد.
◙ عمان التي تدير سياستها الخارجية في كنف السرية والتكتم لا تسمح بوجود أصوات داخلية مخالفة لمواقفها الرسمية
وراج إثر الزيارة فيديو يظهر فيه أحمد الخليلي وهو بصدد التعبير عن موقف ديني عام اعتبر من خلاله أنّ التودّد للأعداء مخالف للشريعة، مستشهدا بالآية القرآنية “ولن ترضى عنك اليهود ولا النّصارى حتّى تتّبع ملّتهم”.
ورغم أنّ محتوى الفيديو جاء عبارة عن موقف كثير التداول في خطب الوعاظ والشيوخ، ولا يتضمّن أيّ إشارة لزيارة نتنياهو إلى السلطنة، فقد تمّ الترويج له على نطاق واسع عبر شبكة الإنترنت على أنّه “موقف شجاع” من الزيارة بعد أن أُحيط الفيديو نفسُه بهالة من التشويق عبر وصفه بأنّه “مسرّب”، رغم أنّه منشور على الحساب الرسمي للخليلي في منصة تويتر التي تحول اسمها حاليا إلى إكس. لكنّ ما تم التغاضي عنه إعلاميا كان معاكسا تماما للتأويلات التي تمّ ترويجها بشأن الفيديو المذكور، وتمثّل في انخراط مفتي عمان في تبرير الزيارة، باعتباره جزءا من الدولة العمانية.
جاء ذلك من خلال رسالة بعث بها إلى رجل الدين الإيراني جعفر السبحاني طمأنه فيها إلى أن زيارة نتنياهو إلى مسقط لا تعني إقامة علاقات رسمية بين السلطنة وإسرائيل، مؤكدا “الموقف العماني الدائم من القضية الفلسطينية بما يدعم النضال فيها، ويعزز الإصرار على استرداد الحق المغصوب کاملا غير منقوص”. وقال في رسالته التي نشرت محتواها صحيفة محلية عمانية إنّ “الحال اقتضى أن يكون هناك تبادل زيارات من أجل تخفيف الوطأة عن الشعب الفلسطيني”.
وكان الظهور المفاجئ لنتنياهو إلى جانب السلطان قابوس بن سعيد في أكتوبر من سنة 2018 قد شكّل مفاجأة مدوّية للعمانيين وسكّان المنقطة الذين يعلم الكثير منهم بوجود علاقات بين مسقط وتلّ أبيب دون أن يتوقّعوا بلوغها تلك الدرجة من التطوّر والذي لوحظ حتى من خلال مقدار الأريحية والحفاوة اللتين استقبل بهما رئيس الوزراء الإسرائيلي من قبل سلطان البلاد الراحل.
ومع ذلك لم يشكّل الأمر مفاجأة للمراقبين ومتابعي الشؤون العمانية المعتادين على التعاطي مع أسلوب الدولة العمانية في إدارة علاقاتها الخارجية والقائم على التزام أقصى درجات السرية والتكتّم، وهو أمر يعود أصلا إلى طبيعة الدولة التي لا تعتبر نفسها مضطرة لإطلاع الرأي العام على تفاصيل سياساتها وما تقدم عليه من خطوات يُعتبر بعضها مصيريا.
ويحيل أسلوب السرية والتكتّم الذي تتبعه الدولة العمانية كذلك على مقدار صرامتها وعدم سماحها بأيّ هامش للتعبير عن مواقف مغايرة لمواقفها الرسمية من قبل أيّ طرف داخلي حتى ولو كان المفتي أحمد الخليلي بما له من رمزية دينية وبعد شعبي.