أحمد الديباوي
كاتب مصري
يلتقي الإخوان والسلفيون، مع سائر التنظيمات الجهادية المسلَّحة، في مسائل فقهية كثيرة؛ لعلّ أبرزَها؛ التبشير بعودة الخلافة الإسلامية، تمهيداً للوصول إلى سيادة العالم، كما يزعم الإخوان، وهم يعتمدون، في حُلمهم الطوباوي هذا، على نصوص كرّسها تعاظم المدّ السنّي المحافظ، عبر تاريخ طويل من سيطرة الإقطاعية العسكرية على الحكومات المركزية في الدولة الإسلامية، الأمر الذي أتاح مناخاً ممتازاً لذلك الاعتقاد.
ومن هنا، استلهم المحافظون نصوصاً آحادية، وفسّروها وفق رؤية استعلائية، تتهم المخالفين لها بالكفر والنجاسة، وتحرّض على استملاكهم، وقهر إرادتهم باسم الدين، ومن ثمّ تجذّرت في عقول أتباعهم تلك الأحلام، فعمدوا إلى نشرها وتدعيمها بشروحهم وتأويلاتهم، ووجدت لها صدى لدى كثيرين ممّن لا يقيّمون للعقل وزناً ولا قدراً، ولو أنهم فكّروا لتوصّلوا إلى أنّ القرآن لم يحدّد نظاماً سياسيّاً للحكم؛ لأنه لم يشأ ربط المطلَق بالنسبيّ، والأخلاقي بالقانوني والسياسي.
استثمر الإسلاميّون النّصوص، وأوّلوها، وأقنعوا بها غيرهم، تحت دعاوى عودة الخلافة الراشدة، وقاموا بتسويقها مقترنة بآرائهم، حتى أُعلنت “دولة الخلافة الإسلامية”، على لسان الناطق الرسميّ باسم “داعش”، ليقوم التنظيم الإرهابي بتنفيذ تلك الآراء: حرقاً وذبحاً وسبْياً وتقتيلاً، متوهّمين أنّ أفعالهم هي طريق الوصول إلى حكم الدنيا باسم الخلافة، وتنفيذ الوعد الإلهي بالتّمكين في الأرض!
لم يكن سعيُ “الإخوان” إلى الحُكم إلا لتنفيذ الحلم الذي يراودهم منذ تأسيس جماعتهم، فما فتئ المرشد الأول، حسن البنا، يوجّههم إلى ذلك، ويخاطبهم في بداية التأسيس، العام 1928، بقوله: “إنَّ الدور عليكم في قيادة الأمم وسيادة الشعوب”، ويسير زملاؤه وأتباعه قي نفس الدرب؛ حيث يقول عبد القادر عودة: “طبيعة الإسلام أنْ يفرض حكمه على الدّول، وأنْ يبسط سلطانه على العالم”، وهو المعنى نفسه الذي بشّر به خيرت الشاطر، النائب الأول للمرشد العام للجماعة، قبيل توليهم السلطة في مصر، في 24 حزيران (يونيو) العام 2012، حيث قال: “نستعدّ للحكومة الإسلامية بهدف سيادة العالم”، من أجل ذلك التقت تركيا معهم عبر مرجعية رئيسها أردوغان؛ فهو الآخر، وبانتمائه إلى التنظيم الدولي للجماعة، يطمح في مثل حلمهم بالخلافة؛ لذا فهو يقف في خندقهم متحدّياً دول المنطقة، معظمها، طمعاً في أنْ تكون تركيا بوابةً لعودة الخلافة العثمانية، التي أُلغيت، في الثالث من آذار (مارس) عام 1924، عبر مصر، ذات الثقل الجغرافي والتاريخي والحضاري.
استتار المُلك بالدين عند كلّ خلاف سياسي
ومِن أجل الخلافةِ وتحقيقها؛ يتمُّ القتل والأسر والذبح باسم الدين، وليس هناك أفظع من استتار المُلك بالدين؛ حيث كلُّ خلاف سياسي يتلبّس بالدين لا نجني من ورائه إلا الاضطهاد والتدمير والقهر والاستبداد، لذلك لم تكنِ الخلافة راشدةً، سوى في أعوام قليلة، انحسر فيها الاقتتال بين الصحابة، رضي الله عنهم؛ والذين شجر بينهم الخلافُ بسبب صراعات سياسية، أُريقت بسببها دماء غزيرة؛ فكان طبيعياً أنْ يقتتل الصحابة بعد وفاة الرسول الكريم، صلّى الله عليه وسلّم، بفعل السياسة والمُلك، وحاولَ كلّ فريق أنْ يستأثر بالحقّ في ذلك، مهما كان ثمن الدّم!
ومما يثير العجب؛ أنّ الفقهاء والمحدّثين أوّلوا حديث النبي الكريم، صلّى الله عليه وسلّم، والذي يقول فيه: “إذا التقى المُسلمان بسيفَيْهِمَا، فالقاتل والمقتول في النار” تأويلاً غريباً؛ فادّعوا أنّ اقتتال الصحابة فيما بينهم إنّما هو محض اجتهاد منهم؛ فالمصيبُ له أجران، والمخطئ له أجرٌ واحد، وكأنّ الدّم فيه اجتهاد كالفكر! وهم إنّما تعسّفوا في التأويل، ليخرجوا من حَرَجِ كونهم صحابة عدول، فمهما ارتكبوا مِن أخطاء بشرية لا يقدح ذلك في عصمتهم وعدالتهم، ومما ضخّم من هذا الصراع السياسي، وكان عاملاً في ديمومته؛ ادّعاء كلّ فريق أنَّ التفويض الإلهيّ معه دون سواه، كما ضخّم منه، أيضاً؛ تلبُّس الفقهاء وضاربي الأحاديث بالسياسة؛ فكم مِن فقهاء ألبسـوا الحقّ بالباطل والباطل بالحقّ، فصدقت عليهم مقولة ابن رشد: “رُبّ فقيه كان الفقهُ سبباً في عدم تديّنه”، وكم من محدّثين وضعوا أحاديث ونحلوها على الرسول الكريم، صلّى الله عليه وسلّم، لينصروا بها طائفة، أو ليكسبوا بها جولةً من جولات ذلك الصراع، أو لتدعيم موقف هنا أو هناك؛ فكان طبيعياً أنْ تجد أحاديثَ تقدح في الأمويّين، مقابل أحاديث تحتفي بفضائل معاوية والبيت الأمويّ كلّه!
تاريخ الخلافة الإسلامية لم يكن كلّه عدلاً أو رحمة
ولم تكن الخلافة، كما يتوهّم البعض، جامعةً لمعاني العدل والرحمة والمساواة؛ بل كانتْ ظلماً واستبداداً وجوراً؛ فهذا عمرُ بن عبد العزيز، يقول في كلمة موجَزَة جامعة: “الحجّاج بالعراق، والوليد بالشام، وقرّة في مصر، وعثمان في المدينة، وخالد بمكة ..، اللّهم قد امتلأت الدنيا ظلماً وجوراً فأرِح الناس”، وينقل عزّ الدين بن الأثير أنّ عبد الملك بن مروان هو أوّل مَنْ نهى عن الكلام في حضرة الخلفاء، فقد كان يقول: “لا يأمرني أحدٌ بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه”، رغم أنّ كتب المحدّثين والفقهاء أسبغتْ عليه مِنَ الفضل والعدالة ما ليس لغيره؛ فعدُّوْهُ عابداً حافظاً لأحاديث الرسول، صلّى الله عليه وسلّم.
لم تكن الخلافة الإسلامية فردوساً مفقوداً، بقدر ما كانت كاشفة لنزاعات سياسية عميقة في المجتمع الإسلامي، بفضل التبريرات النّصّية التي اتّكأ عليها الخلفاء؛ فهذا معاوية، يعتقد أنّ قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [التوبة:34] قد نزل في أهل الكتاب، حتى أنّه قال: “الأرض لله، وأنا خليفة الله؛ فما أخذتُ فلي، وما تركته للناس فبالفضل مني”، ولا أدلّ على المظالم التي ارتُكبت باسم الخلافة من قول سعيد بن العاص، عامل العراق في عهد بني أمية: “ما السواد إلا بستان قريش، ما شئنا أخذنا منه، وما شئنا تركناه”، وقول عمرو بن العاص لأحد الذين يتولّون جمع الخراج والجزية في مصر: “إنما أنتم خزانة لنا، إنْ كثر علينا كثرنا عليكم، وإنْ خفّ عنا خففنا عنكم”، ما يؤكّد أنّ تاريخ الخلافة، بعد الرسول الكريم، في مجمله، كان مُظلماً قائماً على القهر والسيف وتكميم الأفواه التي تصدح بالحقّ، أو تهفو إلى لقمة عيش، أو تحلم بالحرية والعدالة والمساواة.
يقول الشيخ علي عبد الرازق، في كتابه “الإسلام وأصول الحكم”: “لا شيء في الدّين يمنعُ المسلمين أنْ يسابقوا الأمم الأخرى في علوم الاجتماع والسياسة، وأنْ يهدموا ذلك النظام العتيق الذي ذلّوا له واستكانوا إليه، وأنْ يبنُوا قواعد ملكهم ونظام حكومتهم على أحدثِ ما أنتجت العقولُ البشرية، وأمتنِ ما دلّتْ تجارب الأمم على أنّه خير أصول الحكم”.
نقلاً عن حفريات