فرانسيس غيليس
رد حكومة بنيامين نتنياهو على الهجوم الذي شنته حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023 اتسم بقسوة خطابية وعسكرية. وقتل الجيش الإسرائيلي حتى الآن أكثر من 24 ألف شخص في غزة، من بينهم 8800 طفل. لكن القادة الغربيين ووسائل الإعلام الغربية بدوا داعمين لهذا القصف العشوائي. وتقوض ردود القادة الأوروبيين على الهجوم الإسرائيلي ضد الفلسطينيين موقف الاتحاد الأوروبي “المبدئي” بشأن أوكرانيا وموقفه في الجنوب العالمي. وهذا يغذي الشعبوية ويهدد الديمقراطية في أوروبا.
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لخّص وجهة نظره في بث حكومي خلال مطلع نوفمبر 2023، أي بعد شهر على هجوم حماس الوحشي داخل جنوب إسرائيل الذي تسبب في مقتل حوالي 1200 شخص واحتجاز 240 رهينة، لا يزال العديد منهم بين أيدي حماس. وقال “نحن أبناء النور بينما هم أبناء الظلام”. وكتب نائب رئيس الكنيست نسيم فاتوري على إكس “احرقوا غزة الآن ولا أقل من ذلك”. وقال وزير التراث بالحكومة الإسرائيلية عميحاي إلياهو إن إلقاء قنبلة نووية على غزة هو حل ممكن.
هذه التصريحات القاسية فاجأت بعض المراقبين الغربيين. لكنها لم تكن جديدة على أي شخص مطّلع على السياق الذي أنشأت فيه الأمم المتحدة دولة إسرائيل في 1948. وجاء في كتاب “العوالم الثلاثة: مذكرات يهودي عربي” لآفيشلايم، الأستاذ الفخري للعلاقات الدولية في أكسفورد، أن “إسرائيل تأسست على يد يهود من أوروبا وتفخر بكونها جزءا من الغرب، ومما كان يسمى في ذلك الوقت العالم الحر. ورأت وقدّمت نفسها لبقية العالم كجزيرة للديمقراطية في بحر من الاستبداد”. وتندرج هذه الكلمات المأخوذة من سيرة ذاتية ضمن أفكار حول “ضحايا الصهيونية الآخرين”. وتشير إلى اليهود المنفيين “من أوطانهم العربية القديمة حيث نجح دمجهم ونقلهم إلى إسرائيل، ليكونوا طبقة تابعة للأمة الاستيطانية العبرية” على حد تعبير موشيه ماشوفير، مؤسس منظمة ماتزبين اليسارية التي اختفت عام 1983. واختفت تقريبا الجالية اليهودية المزدهرة في بغداد التي أعادها آفيشلايم إلى الحياة. ولاقت مصير الجاليات اليهودية في دول الشرق الأوسط الأخرى وفي جميع أنحاء شمال أفريقيا. وكان الاستثناء الذي يؤكد القاعدة هو المجتمع الصغير الذي تأسس بعد التدمير الثاني للهيكل خلال سنة 79، والذي بقي حول كنيس الغريبة في جزيرة جربة التونسية.
◙ مبيعات الأسلحة الأميركية والفرنسية والبريطانية الضخمة إلى المملكة العربية السعودية وغيرها من دول الخليج زادت من عدم الاستقرار في اليمن والسودان، مما شجع إيران على بناء قوات بالوكالة
وأكدت الصهيونية منذ ولادتها في أواخر القرن التاسع عشر في فيينا على الارتباط التاريخي للشعب اليهودي بموطن أجدادهم في الشرق الأوسط، لكنها خلقت دولة أبقت نفسها مع الغرب حصريا بتوجهها الثقافي والجيوسياسي. وجد أعضاء هذه الجاليات اليهودية من الدول العربية عندما وصلوا إلى إسرائيل في خمسينات القرن العشرين أن الدولة الجديدة “احتقرت العربية باعتبارها لغة ‘العدو’.. وكانت عقدة النقص من العوامل الرئيسية التي شكلت علاقتي المبكرة بالمجتمع الإسرائيلي. كنت صبيا عراقيا في أرض الأوروبيين”. كانت هذه كلمات آفيشلايم، التي تعكس مشاعر العديد من اليهود السفارديم (العرب) تجاه اليهود الأشكناز من أوروبا الذين هيمنوا على الحركة الصهيونية والدولة الجديدة.
واعتبر الفلسطينيون، الذين أجبر 700 ألف منهم على الخروج من إسرائيل بعد 1948 والعالم العربي الأوسع، اعتبروا إسرائيل امتدادا للاستعمار الأوروبي. وكانت دولة تأسست في الشرق الأوسط ولكنها ليست منه. وأشار دافيد بن غوريون (أول رئيس وزراء لإسرائيل) إلى مهاجري إسرائيل من الشرق على أنهم “جحافل متوحشة”. وشاركه في هذه الغطرسة وزير الخارجية أبا إيبان، الذي قال إن “الهدف يجب أن يكون غرس الروح الغربية فيهم، وعدم السماح لهم بجرنا إلى الشرق غير الطبيعي”.
وطالما اعتبرت المؤسسة الإسرائيلية إنشاء دولة إسرائيل الحديثة تعويضا عن المحرقة التي تعدّ من أبشع الجرائم في التاريخ. وهذا ما جعل إسرائيل امتدادا للغرب وحليفا موثوقا به. ومن المفارقات التاريخية أن يشعر الإسرائيليون بأنهم أقرب إلى الدول الأوروبية التي مارست شكلا خبيثا من معاداة السامية لقرون قبل أن تبلغ ذروتها في المحرقة، من الدول الإسلامية التي منحتهم وضع الأقلية المحمية ولم تشيطنهم مهما كانت العلاقات عنيفة في بعض الأحيان.
وحين جرّدت فرنسا الفيشية اليهود الفرنسيين من جنسيتهم عام 1940، دعا علماء الجزائر إلى احترام إخوانهم اليهود وطلبوا من المسلمين عدم الاستيلاء على أي ممتلكات يهودية قد يكون الفرنسيون قد سلبوها. ويُذكر أن الجزائر كانت حينها جزءا من فرنسا. ورفض ملك المغرب محمد الخامس، الذي كانت بلاده مستعمرة فرنسية آنذاك، لعب لعبة فيشي. وساعد المسلمون الآلاف من إخوانهم اليهود عندما تراجع الجنرال النازي إرفين رومل عبر تونس، وهي مستعمرة فرنسية أخرى، بعد أن هزمه المشير برنارد مونتغمري في منطقة العلمين بالصحراء الليبية. وكان خطر ترحيل اليهود التونسيين إلى معسكرات الاعتقال في شتاء 1942 – 1943 حقيقيا. ولم يكن لملك البلاد المنصف باي وزعيم الحزب الدستوري الجديد الوطني الحبيب بورقيبة أي رابطة بالأيديولوجية والممارسات النازية. ولكن إحياء عالم شبه منسي لن يعيده مجدّدا. وينطبق ذلك على بغداد كما ينطبق على القاهرة وتونس.
ومن أكبر المفارقات في السياسة الإسرائيلية منذ السبعينات هو أن أصوات السفارديم اليهودية هي التي دعمت قبضة الليكود اليميني وقادته المتعاقبين من مناحيم بيغن إلى بنيامين نتنياهو على السلطة. ولطالما كانت قيادة الليكود أشكنازية ولم تخدم سياساتها الاقتصادية النيوليبرالية يوما مصالح القطاعات المحرومة في المجتمع. ويجادل آفيشلايم بأن “اليهود السفارديم جلبوا معهم إلى إسرائيل كراهية عميقة وعدم ثقة بالعرب، مما جعلهم ينجذبون بشكل طبيعي نحو أحزاب اليمين القومية المعادية علنا للعرب”. واعتبر مناحيم بيغن من أوائل السياسيين الإسرائيليين الذين لجأوا إلى التلاعب بالمشاعر المعادية للعرب، وإن لم يكن هذا التكتيك مقتصرا على اليمين الإسرائيلي.
◙ الصهيونية أكدت منذ ولادتها على الارتباط التاريخي للشعب اليهودي بموطن أجدادهم في الشرق الأوسط، لكنها خلقت دولة أبقت نفسها مع الغرب حصريا بتوجهها الثقافي والجيوسياسي
وقدّم القادة الغربيون ووسائل الإعلام الغربية منذ 7 أكتوبر دعما كاملا للقصف العشوائي لغزة. وكانت صحيفة هآرتس الإسرائيلية اليومية الناقدة أكثر حرية وجرأة من نظيراتها الغربية. ويبدو أننا نشهد ثمار الجهود التي بذلتها إسرائيل على مدى عقود لإعادة تعريف تطهيرها العرقي للسكان العرب في فلسطين خلال 1948 على أنه نتيجة لمغادرة العرب طواعية لمنازلهم. ونجح الإسرائيليون في تقويض الاتهام بأن دولتهم بنيت على أسس يعتبرها بعض المراقبين جريمة ضد الإنسانية، بينما تتواصل مناقشة كبار القادة الإسرائيليين والمسؤولين السابقين لنقل السكان الفلسطينيين من غزة اليوم علنا باعتباره حلا رسميا.
تردد الغرب حول غزة يكشف نظاما عالميا يواجه تمردا بسبب هيمنته على الخطاب الدولي. وتلعب المعايير المزدوجة التي تعتمدها الولايات المتحدة في التعامل مع إسرائيل دورا خطيرا، حيث يتبعها الاتحاد الأوروبي. ولاحظ دافيد ليفي أن “فلسطين تحتل الآن مساحة رمزية في جزء كبير من الجنوب العالمي وفي العديد من المدن الغربية. وهذا تجسيد للتمرد ضد النفاق الغربي، وضد نظام عالمي غير مقبول، وضد نظام ما بعد الاستعمار”. وأعاد الغرب اكتشاف نفسه في فبراير 2022، مع انطلاق الغزو الروسي لأوكرانيا، وكان فخورا بكيفية استجابته وتضامنه غير المسبوق لمواجهة عدوان فلاديمير بوتين. وأحيا النظام الليبرالي، الذي مزقته الهزيمة في أفغانستان والعراق، نفسه. لكن هذا الفخر مات بعد عامين في أنقاض غزة.
وجدير بالذكر أيضا أن مبيعات الأسلحة الأميركية والفرنسية والبريطانية الضخمة إلى المملكة العربية السعودية وغيرها من دول الخليج زادت من عدم الاستقرار في اليمن والسودان، مما شجع إيران على بناء قوات بالوكالة (خاصة في لبنان واليمن) أثناء تآكل نفوذ الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في الشرق الأوسط الكبير. وتزعزع هذه الأسلحة استقرار أوروبا، حيث يخدم انعدام الاستقرار المتزايد مصلحة روسيا والصين. ويبدو أن الغرب يتفنن في إطلاق النار على نفسه.
التاريخ الحديث يكمن في جذور الشعور السائد بـ“تراجع الغرب” وعواقبه الحتمية الكامنة في صعود الشعبوية اليمينية. وإذا كان القادة الغربيون يعجزون عن الوقوف في وجه القيم التي تأسس عليها العالم الذي بنوه إثر 1945، وكانوا يميلون إلى رمي مبادئ “الحرية والمساواة والأخوة” الموروثة من الثورة الفرنسية في مزبلة التاريخ، ويتسابقون بدلا من ذلك لبيع المزيد من الأسلحة للأنظمة الاستبدادية، فلماذا يجب على ناخبيهم، وشعوب العالم، أن يؤمنوا بهم؟
فرانسيس غيليس
باحث مساعد في مركز برشلونة للشؤون الدولية
نقلاً عن العرب اللندنية