كمال الهلباوي
عضو مكتب الإرشاد السابق
أقول هنا إنّ المستقبل ينبني على الماضي والحاضر، فضلاً عن الأهداف والغايات والوسائل، في ظل وجود قنوات ذات صلة، وليست منفصلة، حتى وإن كانت متباعدة، فالقراءة لاستطلاع المستقبل تحتاج إلى دقة وموضوعية ووضوح ومعرفة وخبرة عملية ونظرية.
لقد انضممت إلى تنظيم الإخوان المسلمين منذ وقت مبكر، في مدرسة المساعي المشكورة الثانوية بشبين الكوم، وذلك في أوائل الخمسينيات، وفي تسعينيات القرن الماضي، بعد رحلة طويلة، كنت عضواً في قيادة التنظيم العالمي (مكتب الإرشاد ومجلس الشورى)، واستقلت من القيادة في العام 1997، وعملت على مشروعات فكرية دعوية منها: ماذا يُقدّم الإسلام للغرب، ومشروع الإرهاب (وجهة النظر الأخرى)، وبقيت عضواً في التنظيم.
ولمّا قامت ثورة كانون الثاني (يناير) العظيمة، حملت حقائبي وعدت إلى مصر من بريطانيا؛ رغبة في مشاركة الشعب فرحته ومستقبله المشرق.
عدت إلى مصر بعد (23) عاماً من حكم الرئيس مبارك، كنت فيها في المنفى بأهواله، واطلعت بعد العودة، عن قرب، على أوضاع الإخوان في مصر. وقد كانت هذه الأيام كاشفة، ثم استقلت من التنظيم كله في أواخر آذار (مارس) العام 2012، عندما كان الإخوان يظنون أنّهم في صعود سياسي، ويركزون على السلطة أكثر من الدعوة.
رأيت بأمّ عيني الانحراف عن المشروع الإسلامي الذي يحمله التنظيم، وتتمثل بعض تلك الانحرافات في استمرار الجوانب السريّة، التي تحول دون التوثيق الدقيق، وتنامي الميل إلى العنف، رغم شعار السلمية المرفوع، والاستحواذ أو الرغبة الخالصة في السلطة، رغم شعار المشاركة، فضلاً عن ثغرات في المنظومة الأخلاقية، وضعف قراءة الواقع، وإهمال التدرج وأهل الخبرة من الشعب، وهم كثر، وتقديم أهل الثقة فقط، حتى من الإخوان.
وقتها كتبت عدة مقالات عن مستقبل الإخوان في جريدة صوت الأمّة، وجريدة الوطن وغيرهما، وقمت بمقارنة بما كان عليه الإخوان في التاريخ، لعلّ القيادة تدرك الانحرافات فتعالجها قبل استفحالها، وقبل أن يتسع الخرق على الراتق، من أجل تجنب الأخطار والتحديات، والاعتراف بما كان من أخطاء، والعزم على عدم الوقوع فيها مستقبلاً، والعودة إلى الأصالة والنهوض بالوطن الحبيب وبالأمّة.
جاء الإخوان إلى السلطة، وكان اختباراً شديداً، وتمسّكوا بها رغم ثورة حزيران (يونيو)، التي اعتبروها انقلاباً، رغم ما كانوا يبشرون به الشعب والجماعة، بعد اختيار السيسي وزيراً للدفاع، باعتباره وزير دفاع بنكهة الثورة.
تسارعت الأحداث بعد رابعة والنهضة، وكتبت مذكرة للرئاسة عن أوضاع المؤسسة القضائية، وكنت عضواً في لجنة الـ50 التي وضعت دستور العام 2014، وعضواً في المجلس القومي لحقوق الإنسان. واعتبر الإخوان ذلك تعاوناً مع الظالم، ونسوا أنّ الثورة شعبية، وأنّ مصر تحتاج إلى بناء وتعاون، وخروج من الصراع.
كان من الواضح أنّ الخرق قد اتّسع، وأنّ الإخوان رغم صعودهم السياسي، إلّا أنّهم أصبحوا يفتقدون إلى تميز الأركان الـ3 التي تلزم للنجاح، وتلزم لتفوق المشروع الإسلامي، وهذه الأركان هي: القيادة الموثوقة، والمنهج المعاصر، والعاملون المخلصون للمشروع وللوطن والأمّة. أين الشعارات البراقة من قبيل: نحب الآخرين، ونعمل لهم في سبيل الله تعالى، أكثر ممّا نعمل لأنفسنا؟
لم يكن كثيرون من أهل الكفاءة من الموثوق فيهم عند القيادة الإخوانية، التي قرّبت من كانوا على شاكلتها، فخسرت الجماعة خبراتهم وإخلاصهم؛ وتأخرت الدعوة، وجرى التمييز وفقدت الجماعة ثقة الشعب، بل تنكّرت الجماعة حتى لأدبياتها، ومن ضمنها ما جاء في البند الـ18، من البنود الـ20 في رسالة التعاليم: (الإسلام يحرر العقل، ويحث على النظر في الكون، ويرفع قدر العلم والعلماء، ويرحب بالصالح والنافع من كل شيء، والحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها، فهو أحق الناس بها). أين هذا الفهم ممّا آل إليه الوضع داخل الإخوان من تزييف؟ لقد تسلف الإخوان، وأصبح من أعضاء مكتب الإرشاد من يحمل الحقد والعنف، ومن يميل إلى تكفير بعض الحكومات والمؤسسات والأفراد، حتى نادى بعض المتحالفين مع الإخوان في رابعة وعلى أعينهم قائلاً: (قتلانا في الجنة، وقتلاهم في النار)، ونادى الرئيس مرسي، وهو في الحكم (لبيك يا سوريا)، ونادى للجهاد في سوريا، والحمد لله تعالى أن نجّانا من الأهوال التي شاهدناها في سوريا.
الحديث عن الأخطاء طويل ومحزن، وقد كتبت عنه كثيراً في وقته، والحديث هنا عن أهمّ الأخطاء كان ضرورة من ضرورات استشراف المستقبل وليس لحصرها، لأنّ المستقبل، في جزء كبير منه، يُبنى على حقائق الماضي والواقع، والاستفادة منها لرسم ملامحه، ولا يُبنى على الأمنيات أو الأحلام التي شاهدوها في رابعة، ولم تكن دليلاً شرعياً، ولا معقولاً عن المستقبل.
الانشقاقات في الإخوان كثيرة، ومعروفة في التاريخ، ولكنّها للأسف الشديد لم تلفت نظر كثير من المسؤولين، ولم تعالج أسبابها المنطقية، وكان لا بدّ أن يدرك الجميع أنّ أول أركان البيعة هو الفهم، وأنّ القيادة الحكيمة تعترف بالأخطاء الداخلية، وتسعى تجاه التصويب، وربما كان كتاب: دعاة لا قضاة، رداً على التشدد والتجهيل والتكفير والانعزالية، حتى من داخل السجون والمعتقلات وفي أشدّ الأوقات صعوبة، وذلك في السبعينيات من القرن الماضي.
كتبت في العام 2009 مقالاً بعنوان: عاكف آخر المرشدين الكبار؛ فاستخفت القيادة الجديدة بذلك، ثم كتبت عدة مقالات؛ أوضحت فيها أنّ جماعة الإخوان انتهت، واعتبرت أنّ القيادة الجديدة كارثية، فلامني بعض من ما زالت صلتي بهم قائمة، وأنا أعتقد أنّ الإخوان التي انتميت إليها قد انتهت.
هناك مشروع جديد عند الإخوان اليوم، يختلف كثيراً عن المشروع الإسلامي الذي عرفناه، ولذلك جاء الصراع الأخير بين جبهتي إسطنبول ولندن كاشفاً للأوضاع، وليس مسبباً لها؛ فالصراع جاء هذه المرة ليكشف عن الخلاف حول السلطة، والمال، ورئاسة التنظيم والمؤسسات، والتاريخ، رغم مخالفاتهم له، ورغم الأخطاء التي كان ينبغي تجنبها.
تطور الصراع داخل الإخوان، ولم يكن الصراع الحالي على الأهلية، أو التطوير، أو العودة إلى الأصول، أو الاعتراف بالأخطاء، أو السعي للخروج من الصراع، أو العمل لصالح الشعب كله أو الأمّة.
في العام 2018، تقدمت بمبادرة للإصلاح في الأمّة ـ وليست عن مصر وحدها- وليست عن الإخوان والتحديات فقط- ورغم ذلك انهالت الاتهامات على رأسي من الإخوان، ورفضوا المبادرة، وما كانت المبادرة إلّا للخروج من الصراع، والسعي للإصلاح في الأمّة الإسلامية والعربية، وفي مقدمتها مصر بالطبع، والاستفادة من القدرات والإمكانات البشرية الكبيرة، والتركيز على العدو الحقيقي.
الإخوان ينقسمون حالياً إلى (3) أقسام واضحة، وعدة مجموعات أو جماعات أصغر، وهذا أيضاً ما ذكرته من قبل، ولم يكن وقتها واضحاً للناس والمجتمع؛ والأقسام الـ3 هي: جبهة تركيا، وجبهة لندن، وجبهة محمد كمال. أمّا المجموعات الصغيرة، التي أدركت فشل الإخوان في السلطة، ومواجهة التحديات، وفقدت الثقة في القيادات، فقد اعتزلت أو قعدت، فهي عديدة، ولكلٍّ مشروعه.
أمّا عن سيناريوهات المستقبل، فالانقسام والصراع والتعدد مستمر، هذا على الساحة الداخلية، ولم يعد هناك ملاذات آمنة بالكامل، بعد الاتهام بالإرهاب والعنف، وتغير صورتهم في العالم العربي، وخصوصاً في السعودية والإمارات، وأوروبا؛ خصوصاً بعد أن تخلّت أمريكا عن دعمهم في موضوع السلطة، وفي ضوء التسويات الدولية الجديدة، والانقسام مستمر؛ نظراً لاختلاف المنهج والفهم والتحالفات.
وفي الختام أقول: يا ليت الإخوان ينظرون في أمرهم بموضوعية، فالعاقل لا يحمل فوق كتفه ما لا يطيق، وهذا حتى مخالف للشرع، ولعلهم يسعون نحو حلحلة التحديات، مهما كان الثمن، فإنّه أقل ممّا يحدث لهم حالياً في الداخل وفي الخارج، ولا يكونون كالعصفور الذي يرفع رجليه إلى السماء خشية أن تقع السماء على الأرض. والله تعالى المستعان.