إبراهيم غرايبة
كاتب أردني
الخليفة هو الحاكم وليس له صفة دينية، ولا يمكن الاطمئنان إلى ما يقال إنّه أحاديث نبوية في هذا المجال، أنّ الرسول، عليه السلام، قالها بالفعل، فلا يمكن تفسير الاختلاف والاقتتال الذي شهده التاريخ الإسلامي، في ظلّ وجود نصّ واضح يبيّن مسائل الحكم على النحو الذي ورد في النصوص التي قدمت للناس بعد قرون من وفاة الرسول، عليه السلام، على أنّها أحاديث نبوية، فلم يكن للأمة الإسلامية خليفة واحد، إلا في فترات ضئيلة جداً، لا تساوي شيئاً بالنسبة إلى الألف وأربعمئة عام في مسار الأمة، ولم يكن هذا الخليفة على الدوام سوى حاكم وصل إلى السلطة بالغلبة!
أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، خاض حروباً طاحنة مع الرافضين لخلافته، وهم بالمناسبة لم يرتدوا عن الدين مع أنّها سميت (حروب المرتدين)، مع إن غالبيتهم كانوا لا يريدون أبا بكر، رضي الله عنه، حاكماً لهم، يريدون أن يكونوا مسلمين مستقلين سياسياً، ولا يتبعون حاكماً في المدينة؛ فهو صراع سياسي وليس دينياً، وبعض “المرتدين” أسروا وهم يصلّون كما ذكر في بعض المصادر التاريخية! وقتل الخليفة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، في عملية اغتيال غامضة، ثم قتل الخليفة عثمان بن عفان، رضي الله عنه، في خلاف داخلي يمكن وصفه بالنزاع بين الأقاليم والمركز بين الأقاليم نفسها، ثم قتل الخليفة علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، بعد حروب طاحنة بين العراق والشام، قتله متمردون سمّوا الخوارج، وهم طرف ثالث في الخلاف والصراع، لا يمكن أن يتقاتل كبار الصحابة، رضي الله عنهم، في وجود نصّ واضح، ثم ينأون بأنفسهم عن الصراع السياسي والإقليمي لو كان هناك أمر ديني واضح في المسألة.
ولم تستقرّ الحالة للأمويين الذين صاروا خلفاء بالغلبة والقوة والقهر، فقد استقلت الحجاز ومصر عنهم فترة طويلة من الزمن حتى استردها عبد الملك بن مروان بعد صراعات طويلة ومعارك قتل فيها الصحابة، رضي الله عنهم، والناس في مكة والمدينة وهدمت الكعبة بالمنجنيق! وفي أثناء ذلك كان العباسيون يديرون شبكة دعوية سرية قادها العباسيون سراً، بعدما خدعوا الأمويين وأوهموهم بأنهم اعتزلوا للعبادة والزراعة في الحميمة (البلدة الأردنية القائمة شمال العقبة بسبعين كيلو متراً) ليتبيّن أنّ 64 عاماً أمضاها العباسيون في هدوء، كانت تحضيراً لثورة شاملة ضدّ الأمويين، أو لنقل ثورة فارسية يقودها العباسيون ضد العرب والأمويين، واستطاع الأمويون أن ينشئوا دولة مستقلة بهم في الأندلس، تسمَّت بالخلافة، واستمرت حوالي ثلاثمائة عام.
أما العباسيون؛ فقد نازعهم الخلافة الإسماعيليون الفاطميون الذين استولوا على معظم الأقاليم الإسلامية وأداروا من القاهرة “خلافة” امتدت من المغرب إلى الشام، وأجزاء واسعة من خراسان والهند…، واستقلت عن العباسيين دول كثيرة في مصر وشمال إفريقيا والهند والعراق، واستولى على السلطة التنفيذية فيها الجيوش التي أنشأها العباسيون من الترك (سموا فيما بعد المماليك ثم انفردوا بالسلطة) أو دول داخل الدولة لها السلطة، ويسمى رئيسها السلطان، مع بقاء الخليفة في بغداد يملك ولا يحكم، مثل؛ البويهيين والسلاجقة، ثم استقل السلاجقة بأنفسهم وزحفوا غرباً وشمالاً، وتوسّعوا على حساب البيزنطيين، حتى قضوا على دولتهم، وأنشؤوا دولتهم المستقلة عن العباسيين والمماليك، وظلّت الخلافة العباسية في أيام المماليك مستمرة، حتى عام 1517؛ عندما انتهت دولتهم على يد الأتراك العثمانيين، وكان الأتراك العثمانيون يسمّون “الروم”، ويصف السيوطي في “تاريخ الخلفاء” السلطان محمد الفاتح بأنّه “ملك الروم”.
وقامت دول إسلامية في الشرق؛ في إيران والهند، وآسيا الوسطى، وجنوب شرق آسيا (أندونيسيا وماليزيا)، لا علاقة لها بالعباسيين والعثمانيين أو غيرهم، وكانت الغزوات التركية المغولية التي تبدو في ذاكرتنا حرباً بين المسلمين والكفار، هي في الحقيقة حروب بين المسلمين أنفسهم، ويعدّ تيمورلنك اليوم رمزاً إسلامياً وملهماً في أوزبكستان، ولم يكن العثمانيون يدّعون الخلافة كانوا سلاطين يقودون الخلافة، لكنّهم ليسوا خلفاء، ولم يكونوا مختلفين عمن بعدهم ومن قبلهم من الحكام.
وباختصار؛ فإنّ الدول “الإسلامية” أو “الخلافة” هي ممالك ودول قامت كما كانت تقوم السلطة في ذلك العصر، تحميها القوة والغلبة وليس النصوص الدينية، ومرّت في مراحل من التقدم والتخلف والفشل والنجاح والعدل والاستبداد، وعلى سبيل المثال؛ فإنّ دولة المماليك التي استولت على السلطة كلياً بين عامي 1249 – 1517، وكانت قبل ذلك مركز سلطة وقوة في دولة العباسيين والأيوبيين، هي دولة الجيش المكوّن من جنود وقادة عسكريين يشترون عبيداً في السوق، وقد أثار العالم المشهور العز بن عبد السلام (من بلدة كفر الماء) جدلاً دينياً؛ عندما أفتى بأنّ السلاطين هؤلاء عبيد، لا تصحّ ولايتهم، وأجبرهم بتأثيره الديني والجماهيري على أن يعتقوا أنفسهم، ويسمّى العز بن عبد السلام في التراث العربي “بائع الملوك.”
هي سلطة، إذاً، قامت بالغلبة والقوة، ولا يغير من حقيقتها وجوهرها أن تسمّى خلافة، أو أن ينسب إلى الرسول أحاديث عن الخلافة!
وكانت “الخلافة” دولاً وسلطنات وممالك تنهض وتزول، فيأتي غيرها، وتتوسع أو تنحسر، وكانت تقوم حضارة وإنجاز كما تحدث انتكاسات خطيرة مخجلة، وفي ذلك كله لا يصحّ أن ننسب إلى الدين هذا المجهود البشري، بحسناته أو سيئاته؛ فالدولة كما السوق والمجتمع مؤسسات تنظيمية ظهرت وتطورت عبر العصور، ولا توصف بأنها إسلامية أو مسيحية أو بوذية، وإن أردنا الدقة في الوصف فهي دول المسلمين.
يذكر السيوطي، في كتابه “تاريخ الخلفاء”، أخباراً وأحداثاً عن الخلفاء والسلاطين، ربما تكون صادمة ومخجلة، وليس ذلك التحيز بهدف الإساءة، لكن للتأكيد على أنّ الخلافة مسألة إنسانية تعكس ما يملك القائمون عليها من ذكاء وإيمان، إخلاص وأهواء، وتحيّزات، وفشل، واستبداد، وعدل، …إلخ.
لم يكن الحكام العثمانيون يعدّون أنفسهم خلفاء، وكانت البلاد التي استولوا عليها، وتسمى الآن تركيا، بلاد الروم البيزنطيين، ويشاركهم فيها العرب والسريان والأرمن واليونان، العثمانيون جاؤوا من آسيا الوسطى، وتحديداً من مدينة التاي المنغولية، وهي اليوم جزء من الصين، وكانت لملوكهم عادة غريبة مرعبة؛ فقد كان من يظفر بالملك يقتل إخوانه جميعاً، وكان الأمراء يقضون حياتهم في السجون، فإن احتيج إلى أحدهم ليكون ملكاً، أخرج من السجن ليصير سلطاناً.
السلطان الأيوبي الأخير في مصر، الملك الصالح، توسّع في بناء جيش مملوكي موثوق لمواجهة أقاربه الأيوبيين الذين تآمروا عليه واستدرجوه إلى الشام، وسجنوه في قلعة الكرك سبعة أشهر، وتوفّى أثناء معركة المنصورة مع الفرنسيين بقيادة لويس التاسع، واستولى الجيش المنتصر (المماليك) على السلطة، ونصّبوا شجرة الدر زوجة الملك الأيوبي الأخير سلطانة، ثم تزوجت من قائد الجيش عز الدين آيبك، ونصِّب سلطاناً على مصر، ودخل في صراع مع قادة المماليك، فقتل معظمهم أو فرّوا إلى الشام، أو الصعيد، وأبقى على أحدهم نائباً له، وهو قطز، ثم جرى خلاف بين الزوجين السلطانين، فقتل آيبك على يد الخدم بتدبير شجرة الدر، ثم قتلت هي أيضاً، وصار قطز سلطان المسلمين، ثم قتله بيبرس بعد معركة عين جالوت، وقبل عودته إلى مصر،.. ولكن ربما يكون المماليك في المجمل أفضل وأحزم من الأيوبيين الذين شغل أكثرهم، بعد صلاح الدين الأيوبي، باللهو والصراعات الداخلية، حتى أنّ أحدهم أعاد القدس إلى الفرنجة، وظلت في يدهم عشرة أعوام.
ومن الأخبار التي عرضها السيوطي في كتابه “تاريخ الخلفاء”؛ كان السلطان المملوكي المنصور فاسداً، ثم خلِع، وتسلطن أخوه الملك الأشرف كجك، وﺧﻠِﻊ قبل أن يتمّ عاماً، وولِّي ﺃﺧﻮﻩ ﺃﲪﺪ، ثم خلِع، وولِّي أخوه إسماعيل، ولقِّب بـ “الصالح”، ومات عام ستّة وأربعين، فقلَد الخليفة أخاه شعبان، ولقِّب بـ “الكامل”، وعام 47 قتل الكامل، وولي أخوه أمير حاج، ولقِّب بـ “المظفّر”، وعام 48 خلع المظفّر، وولِّي أخوه حسن، ولقِّب بـ “الناصر”، وعام 52 خلِع الناصر حسن، وولِّي أخوه صالح، ولقِّب بـ “الملك الصالح”، وقتِل الأشرف شعبان عام 78، وتسلطن ابنه علي، ولقِّب بـ “المنصور”؛ وذلك أنّ الأشرف سافر إلى الحج ومعه الخليفة (كانت دولة المماليك تقوم على خليفة رمزي من العباسيين وسلطان فعلي من المماليك)، والقضاة والأمراء، فتآمر عليه الأمراء وفرّ راجعاً إلى القاهرة، ورجع الخليفة، وأراد الأمراء أن يسلطنوا الخليفة فرفض، فسلطنوا ابن الأشرف، واختفى الأشرف إلى أن ظفروا به وخنقوه.
وعام 79؛ عزل أيبك البدري الخليفة العباسي، وبعد خمسة عشر يوماً عزل خليفته، وعام 84 خلع الصالح، وتسلطن برقوق، ولقِّب بـ “الظاهر”، وعام 85 قبض برقوق على الخليفة المتوكّل، وخلعه وحبسه بقلعة الجبل، وبويع بالخلافة محمد بن إبراهيم، ولقِّب بـ “الواثق بالله”، واستمر في الخلافة إلى أن مات عام 77، فكلّم الناس برقوق في إعادة الخلافة إلى المتوكل فلم يقبل، وأحضر أخاه زكريا فبايعه ولقِّب “المستعصم بالله”، واستمر إلى عام 91، فندم برقوق على ما فعل بالمتوكل، وأخرجه من الحبس وأعاده إلى الخلافة وخلع زكريا، الذي عكف في داره إلى أن مات مخلوعاً، ثم عاد منصور إلى السلطنة، وحبس برقوق في الكرك.
ومات السلطان الظاهر جقمق، فقلد ابنه عثمان، ولقِّب بـ “المنصور”، فمكث شهراً ونصف الشهر، ثمّ وثب إينال على المنصور فقبض عليه، وخلع الخليفة وسيّره إلى الإسكندرية، واعتقله فيها، إلى أن مات عند شقيقه “المستعين”، الذي خلع من قبل أيضاً.
وعام 886؛ ورد الخبر بموت السلطان محمد بن عثمان ملك الروم، واقتتل ولداه، فغلب أحدهما واستقرّ في المملكة، وقدم الآخر إلى مصر، فأكرمه السلطان غاية الإكرام.
نقلاً عن حفريات