احمد عبد اللاه
“أم القنابل” التي ألقيت على (عطان) في نيسان ٢٠١٥، وكأنها جرم سماوي ارتطم بالأرض وأطلق كتلة من اللهب العملاقة، مثلت أعلى درجات الجرأة في استخدام هذا السلاح. كان يراد لها أن تصبح سبباً في كسر معنويات أنصار الله وحلفائهم، لكن مفعولها ارتد على العاصفة ذاتها وأصبحت مشهدية صنعاء حدثاً صادماً تناقلته الشاشات في العالم ليؤسس أول محتوى للملف الإنساني في حرب اليمن.
في ٢٠١٨ تأزمت علاقات الغرب مع ولي العهد السعودي إثر قضية خاشقجي، انعكس ذلك على مواقف دولية تجاه عاصفة الحزم، وذهبت دوائر أمريكية تروج لربط التعاون الأمني والدفاعي بين أمريكا والمملكة بملف حقوق الإنسان. لقد واجهت المملكة حملة إعلامية فاقت تلك التي واجهتها بعد أحداث سبتمبر ١١، ولم تكن الدبلوماسية السعودية ومعها الإعلام في وضع يمكنهما حتى من مواجهة قناة الجزيرة التي استماتت في التشهير بقيم النظام في المملكة .
وفي مؤشر موازي تنامت اهمية الملف الانساني في اليمن واستطاع أنصار “أنصار الله” في الخارج تسويق ادعائهم بأن عاصفة الحزم ماهي إلا “عدوان سعودي على اليمن”، الذي يمر بواحدة من اسوأ الأزمات الإنسانية في العالم. كل ذلك قاد إلى تكثيف جهود أممية لاحتواء الحرب دون المساس بقدرات انصار الله بل اعتبارهم “سلطة أمر واقع”.
وبالرغم من انجازات المملكة على صعيد الاقتصاد والتنمية والإصلاحات الداخلية إضافة إلى ما أفرزته الحرب الأوكرانية من معطيات غيرت في أولويات الدول الكبيرة و مكنت السعودية من أن تجد حيزاً هاما للرد على سلوك الإدارة الأمريكية، إلا أن الهواجس الناجمة عن تخلي الولايات المتحدة عن التزاماتها تجاه أمن المملكة دفعها إلى اعتماد سياسة (تبريد) الملفات الساخنة. وهكذا ظهرت و كأنها اكتشفت للتو أن الرؤية ٢٠٣٠ تقتضي اعادة تموضع استراتيجي و إجراء تعديلات مهمة في السياسة الخارجية.
أطلقت السعودية، على خلفية ذلك، مسارات مختلفة لمعالجة ملفات الأزمات الخارجية بدءاً باحتواء التباينات مع قطر وتركيا وليس انتهاءً بجهود السلام في اليمن واستعادة العلاقات مع إيران، بل ذهبت إلى الشروع في محادثات معلنة حول إمكانية عقد صفقة علاقة مع “إسرائيل” ترافقها حزمة اتفاقات وشراكات أمنية واستراتيجية ملزمة (هذه المرة) بين المملكة والولايات المتحدة.
فهل كانت سياسة الاحتماء تلك كفيلة بأن تنهي شبح الأزمات؟
كما يبدو لا توجد مياه كافية لإطفاء جهنم. لذا فإن الدينامية الجديدة في تبديل دور المملكة وتغيير مساراتها لم تشف جرح الكبرياء الذي خلفه فشل عاصفة الحزم ولم تأت بأي مؤشرات إيجابية، عدا الجري وراء السلام مع أنصار الله بأي ثمن، بعد أن تضاعفت قدراتهم العسكرية وأصبحوا قوة تستطيع أن تجعل المنطقة بأسرها تقف على ساق واحدة. وهذا ما أثبتته خلال حرب الممرات التي ماتزال قائمة.
طهران من جهتها لم تبد أي إشارة تدل على تغيير سلوكها، بل مضت قدماً في استغلال أحداث المنطقة و جني ثمار مشروع توحيد الساحات. وهو مشروع (خميني) حوّل دولاً في المنطقة إلى “مِصدّات” تتلقى الضربات نيابة عن إيران في صراع النفوذ مع الولايات المتحدة، ويعمل على استنزاف قدرات الدول العربية وإدخالها في أزمات دائمة تعرقل استقرارها ونموها و تمنع تحولها إلى كتلة مؤثرة في اقتصاد وسياسة العالم.
من جانب آخر برز السابع من تشرين الأول محملاً بثقل تاريخي هائل اسمه قضية فلسطين و أحدث زلزالاً يصعب استجلاء تداعياته القادمة على المنطقة. و كان “طوفان الأقصى” الوعد الذي أهدر حرفياً دم الصفقة بين السعودية و”إسرائيل” على الأقل في سياقها الزمني المتوقع.
كل ذلك يشير إلى أن السياسة الخارجية ليست ردود أفعال وليست رحلة الشتاء والصيف، بل تبنى على أساس التخطيط الاستراتيجي. وأن الملفات لا تفتح وتغلق دون تغيير جذري في المسببات. وليس بمقدور أحد النأي بالذات أنّا شاء خاصة في منطقة شديدة الاضطراب. أي أن الرؤية الاقتصادية ( ٢٠٣٠) مقابل اللا رؤية في استراتيجية الأمن والدفاع معادلة مشوهة، إذ لا ضمان للاستقرار إلا بالتوازن وقدرة الردع، واعتبار أن أمن الإقليم كلٌّ لا يتجزأ.