نزهة بوعزة
باحثة مغربية
يعكس مفهوم النسوية الدينية في الوعي العربي، لأول وهلة، شحنة سلبية كثيفة ترسم توجساً وارتياباً؛ ممّا يتيح حشوه بالعديد من الإيديولوجيات، الأمر الذي يصعب القبول به، أو حتى الانفتاح عليه، إذ يبدو أنّ التمثل العامي ينجر مع التمثل المشوش، أو التصور الذي يحصر مفهوم النسوية الدينية في موقع معاكس وهادم للطرح الديني، وليس انفتاحاً على مبحث معرفي، إذ يتبادر إلى الذهن أنّ المفهوم يعكس محاولة لإيجاد أرضية لدين جديد، وأنّ الدين الفعلي والمتعارف والمتفق عليه مُعرّض للفناء، لهذا وجب رفض المفهوم في إطار الدفاع عن الهوية الدينية، كما يتمثلها الوعي الجمعي العربي، حيث يتم الخلط بين الدين كرسالة سماوية مقدّسة، والثقافة الدينية التي تتخذ الرسالة السماوية ركيزة لبناء تأويلاتها وتفسيراتها الدنيوية.
إنّ هذا التمييز يغيب في الغالب عن التمثل العامي في السياق العربي، لهذا يتم اتخاد خطوة هجومية تصد وتصم الآذان عن هذا المبحث، فكيف يمكن تبرير ذلك؟
رغم أنّ الدراسات الدينية النسوية تنطلق من واقع أو حقيقة سوسيوسياسية واضحة، بل ومعترف بها من طرف الكل، مفادها أنّ النساء تعرّضن على مدار التاريخ، وفي سياقات مختلفة، للمعاملة الدونية والحرمان من الحقوق بكل أنواعها، وهو ظلم لبس عدة مسوغات وتبريرات، لكنّ أهمها وأقواها كان المسوغ الديني أو السوسيوسياسي المستلهم من الأرضية الدينية، إذ في الغالب تعيش النساء العربيات على نمطية مجتمعية ممتدة منذ مسار تاريخي طويل، تطبعت معه وعبره، على توجه أحادي للثقافة الدينية حتى صارت نمطاً وجودياً يصعب إقناعها بأنّه من تبعات الثقافة الذكورية للدين، وأنّ وضعها في المجتمع ظل وسيظل رهين الرؤية الذكورية؛ ما دام مفهوم الثقافة الذكورية يرادف الدين، ويتساوى مع قدسية النص الديني في الوعي الجمعي.
من المهم الإشارة هنا إلى أنّ النسوية الدينية استطاعت عبر التاريخ استلهام الطرق الأجدى لتحقيق المقاربة الجندرية للدين، لهذا لم تعد تناضل من خارج النص الديني، بل من داخله وعبره وفي غياب أيّ وساطة، فالارتكاز على النص الديني معناه أنّ قدسيته لا تُناقش، أو ليست موضع إشكال حالي، بقدر ما يحاول المبحث مسح الطاولة التي رتبتها الثقافة الذكورية على مرّ التاريخ، وإعادة ترتيب الأمور بما يسمح برفع الظلم الاجتماعي عن المرأة، وتحقيق العدل والمساواة بين الجنسين، ففي النهاية القراءة التي تتناول النص الديني، رغم قدسيته المعلنة، تظل تناولاً واجتهاداً بشرياً قابلاً للنقد والتغيير والتجاوز والتجديد، فهي ليست بنية إلهية متعالية، إذ لا وجود لديانة منفصلة عن بنيتها السياسية والاجتماعية، أو منفصلة عن تصورات وتمثلات أصحابها التي تعبّر عن السياق العام للمجتمع الذي تنتمي إليه. إذن لا نناقش هنا وجود أو القدسية الوجودية للدين، بقدر ما نناقش عملية الإنزال الدنيوي المرتبط بالفهم والإفهام والتأويل والتفسير، أي المهمة البشرية في إنزال النص الديني، وهو إنزال ارتبط بالفئة التي تحكمت في عملية الإنزال الديني دنيوياً، وهو ما جعل الأديان بصفة عامة تقدم تمثلاً نوعاً ما ذكورياً، أو يخدم في الغالب الغايات الذكورية، الأمر الذي مكّنهم من تبوّؤ سلطة عليا حاولوا قدر الإمكان الحفاظ عليها؛ عبر مرادفة قدسية الدين بقدسية الثقافة الدينية، بالمقابل شكل هذا النوع من السلطة، وكذا عملية احتكارها على مدى التاريخ، محفزاً ومحركاً للتيار النسوي بشكل عام، لنزع هذا الاحتكار وتحقيق أرضية عادلة.
عندما نتكلم عن الفقه العربي الإسلامي أو المسيحي أو اليهودي، فهو نموذج أحادي لقراءة نمطية متعارف عليها ومُسلّم بها من طرف الوعي الجمعي العربي، وهو فقه يتزعم القول والتفسير والتأويل الخاص بالدين، هذا الفقه الذي يُعتبر نظرياً ومعرفياً وواقعياً غير قادر على قيادة معرفة فقهية للدين تواكب ما تطرحه الضرورة الواقعية، وهو ما عكس بوناً بين القوانين الوضعية والدينية. صحيح أنّه لم يتم، إلى حدّ الآن، بلورة مبحث واضح للنسوية الدينية في السياق الإسلامي أو المسيحي في السياق العربي، ممّا يثير السؤال: هل فعلاً ينقصنا قراءة نسوية للدين؟
بالعودة إلى المسار التاريخي العربي، نجد أنّ حيثيات هذا المبحث كانت حاضرة عبر المسار التاريخي، فكانت هناك توجهات نقدية إزاء الثقافة الدينية من طرف النساء والرجال في السياق الإسلامي، خصوصاً بعد التجربة التحررية أو ما بعد الكولونيالية، لكنّها لم تصل إلى مرتبة صياغة مبحث النسوية الإسلامية، وهي مجهودات كانت تحاول درء النقص الناتج عن ضرورة مواكبة الصيرورة التاريخية التي فرضها الغرب، عبر دراسات تاريخية نقدية للثقافة الدينية.
يمكن القول: إنّ هناك (3) محطات امتدت من حركات ما بعد الاستعمار، ثم كانت هناك موجة ثانية خلال تسعينات القرن الماضي، وصولاً إلى بداية القرن الحالي، وتبلور مفهوم النسوية الدينية، خاصة بالنسبة إلى الباحثات المغتربات في أمريكا، فانتقلنا من حركات نسائية إصلاحية نهضوية، تنطلق من ضرورة ربط الإصلاح بتحسين وضع المرأة، إلى حركات مارست نقداً تاريخياً للدين، دون أن تصوغ نسوية إسلامية أو مسيحية في السياق العربي، إذ كانت تنطلق من مسلّمة القوانين الوضعية وحقوق الإنسان وضرورة قراءة النص الديني من خلال هذا المنظور، وصولاً إلى بداية تشكل المفهوم في المتن العربي خلال بداية القرن الـ (21).
يمكننا القول: إنّ الثقافة الدينية هي بناء بشري، ومن ثمّة فإنّ وظيفة الثيولوجيا النسوية هي تفكيك هذا البناء ثم إعادة البناء، ومن هنا تبرز المخاوف الذكورية، وحتى بعض التوجهات النسائية، إزاء هذا الهدم، رغم أنّه هدم في إطار بناء ثيولوجيا جديدة تنصف النساء والرجال، وهي ليست بالضرورة معركة أو مواجهة فيها منتصر ومنهزم، فيها وصي على الدين وهادمه، أو رافض له، بقدر ما هي أرضية لإعادة توزيع الحقوق انطلاقاً من السند النصي. لأنّ أبلغ طريقة لإحداث العدل ورفع الظلم والدونية الاجتماعية عن المرأة هو الرجوع إلى النص دون وصاية ذكورية، لا يعني الأمر إيجاد دين آخر إلى جانب الثقافة الدينية الذكورية، ولا يعني الدخول في معارك حول من يمسك زمام الثقافة الدينية، بل يعني إيجاد أرضية تشاركية لفكر أو ثقافة، تقوم على تحقيق المساواة الجندرية كغاية إلهية خيّرة.
نقلا عن حفريات