أحمد عبدالعال عمر
«كل دين في أصله رمز، رمز قابل لما لا نهاية له من أنواع التفسير التي قد يبلغ الفارق بين بعضها وبعض حد التناقض، والدين الذي يُقدم نفسه على أنه ناموس واضح كامل الأجزاء صريح في كل تفصيلاته قد فض للناس كل ما فيه من مضمون على مر الأجيال والأزمان، هو دين مقضى عليه بالموت العاجل أو التحجر السريع، وكلاهما في نهاية الأمر سواء.
وكلما تعددت التفسيرات لهذا الرمز وبلغ التعدد مرتبة عالية من الافتراق الرفيع كان هذا من أوضح الشواهد على أن هذا الدين حى وخليق بالبقاء.
وما النزعات الدينية السلفية وما إليها من حركات تحاول أن تأسر نفسها في ربقة الرمز بمعناه الظاهر الأول، إلا علل وأزمات نفسية في تاريخ الحياة الروحية لدين ما، ولذا عليه أن يبرأ منها قدر المستطاع حتى يستأنف تطوره الثرى في مجال مراتب الحياة الروحية العليا».
هكذا تحدث الراحل الدكتور عبدالرحمن بدوى في مقدمة كتابه الشهير «شخصيات قلقة في الإسلام» محذرًا من الجمود الفكرى والحضارى الذي يُصيب الدين في مسيرته التاريخية عندما يتمركز المتدينون حول ميراث أسلافهم ويعيشون خارج التاريخ والعصر، فيصبحون عقبة في طريق تطور الدين الروحى والفكرى والفقهى بما يجعله صالحًا لكل زمان ومكان.
وبالعودة إلى كتاب «العلامة الدكتور جمال حمدان.. ولمحات من مذكراته الخاصة» الذي يضم مجموعة كتابات ذاتية للدكتور جمال حمدان لم تُكتب بغرض النشر بل لتسجيل ما شغل عقل وقلب الراحل العظيم من أفكار وآراء وهموم حول حاضر ومستقبل مصر والعالمين العربى الإسلامى، نجد أنه كان مهمومًا بظاهرة صعود التيارات الدينية السلفية وجماعات الإسلام السياسى في المجتمع المصرى، وكتب عن مخاطرها على الدين والدولة على نحو جعله قريبًا فيما انتهى إليه من رأى الراحل الدكتور عبدالرحمن بدوى، خاصة عندما قال: «الإسلام السياسى يعيش في جنة البلهاء، الإسلام السياسى مريض نفسيًا وعقليًا قبل أن يكون مريضا روحيًا أو جسميًا، إنه يعيش في وهم قاتل غير معقول ولا عقلانى».
كما رأى الراحل الدكتور جمال حمدان أن الجماعات الدينية مرضى بالدين والدين مريض بهم، والمرض الدينى ليس نفسيًا فقط ولكن عقلى وروحى أيضًا، وقال إن «الجماعات الإسلامية نقيض المجتمع الإسلامى، والأحزاب الدينية هي عصابات طائفية، والعصابات الطائفية هي مافيا الدين، إذن الجماعات الإسلامية هي مافيا الإسلام، لأن المؤمنين إخوة لا عصابة».
ومن منظور تاريخى وسياسى رأى الدكتور جمال حمدان أن: «الإسلام السياسى والجماعات الإسلامية المتطرفة هي وباء دورى يُصيب العالم الإسلامى في فترات ضعفه أمام العدو الخارجى، هم تشنج طبيعى بسبب عجز الجسم عن المقاومة ثم الآن تحول إلى وباء شامل.. الأصولية الإسلامية والصحوة الإسلامية والإسلام السياسى والتطرف الإسلامى، كل هذا رد فعل مريض للقهر الاستعمارى والاستعلاء والكبر والغطرسة الأوروبية والأمريكية».
لكنه لم يتوقف عند الصدام الحضارى والسياسى مع الغرب كتفسير حصرى لظهور تلك الجماعات، وكشف برؤية ثاقبة وشجاعة كبيرة عن البعد الطبقى الكامن خلف ظهورها، فقال: «الدولة الدينية أو حكم الدين ورجال الدين هو الجهل الحاكم وجعل الأدنى يقود، وهذا ضمان بالكارثة.. ظهور الجماعات الأصولية الإسلامية ليس صراعًا دينيًا، لكنه صراع طبقى يتمسح في الدين، هم صعاليك المسلمين (ولا نقول صعاليك الإسلام)، وإن تحولوا فعلا من صعاليك المسلمين إلى صعاليك الإسلام بأفعالهم ومواقفهم. هم فاشلو المجتمع الإسلامى المعاصر، وهم حاقدون على الناجحين والمتقدمين من المجتمع الإسلامى، إنه حقد طبقى وصراع طبقى بزعم الدين والصراع الدينى».
ولتوضيح تلك الفكرة المهمة وتقريبها إلى الأذهان أضاف: «منطق الإرهابيين الإسلاميين بسيط جدًا وواضح تمامًا، هم يقولون لأنفسهم: نحن قاع المجتمع وحثالة الشعب، ليس لدينا ما نخسره سوى تفاهتنا ودونيتنا، فإما فيها لأخفيها، إما يضعنى المجتمع في مكان مقبول وإلا فلأذهب معه إلى الجحيم! لكن كيف أغطى قضيتى بغلاف مقبول؟ الدين هو أرخص وأسهل وأفعل غطاء!».
ثم ينتهى الراحل جمال حمدان إلى تلك النتيجة الخطيرة في نقد جماعات الإسلام السياسى، فيقول: «الجماعات الإسلامية هي بروليتارية الإسلام الرثة أي حثالة المسلمين، وهى تريد أن تقلب المجتمع باسم الإسلام لتحكمه مثلما فعلت بروليتارية العمال في الأيديولوجية الشيوعية.. الجماعات الإسلامية هي شيوعية الإسلام لكن بلا شيوعية وبلا إسلام، هو سفه طبقى باسم الإسلام.. هم صعاليك الإسلام وسقط متاع العالم الإسلامى، وصحوتهم المزعومة ما هي بصحوة ولا هي إسلامية».
وفصل المقال، لقد كتب الراحل الدكتور جمال حمدان- رحمة الله عليه- هذه الخواطر في نهاية ثمانينيات ومطلع تسعينيات القرن العشرين قبل رحيله المأساوى يوم 17 إبريل 1993، وهى السنوات التي شهدت ذروة صعود ظاهرة الإسلام الأصولى وجماعات الإسلام السياسى، وذروة صدامها الفكرى والمسلح مع الدولة المصرية، لينتهى من منطلق وطنى ودينى وحضارى إلى رفض مبدئها ومضمونها ومنهجها وهدفها، وإلى اعتبارها خطرًا على الدين والدولة، واعتبار قياداتها والمنتسبين إليها متخلفى وفاشلى المجتمع الإسلامى الذين يُريدون الاعتراف من قبل المجتمع، ثم الحكم باسم الإسلام وجعل الدين مطية للسلطة، ولو نجحوا في ذلك «سيخرج منهم أعظم وأنجح الفاسقين والمُفسدين وأعداء الدين، والأيام بيننا».
نقلاً عن “المصري اليوم”