أحمد بان
كاتب مصري
عندما انكشفت جماعات الإسلام السياسي، وبدت هشاشة مشروعها الأخلاقي والتربوي، الذي لم يكن سوى قشرة رقيقة لم تصمد لأضواء وحرارة عام واحد من حكم مصر، تطلع كثيرون للتصوف كبديل أخلاقي مشروع، يتعهد أخلاق المصريين، ويسكب حالة من حالات الامتلاء الروحي والسلام مع النفس والعالم، محدثاً شكلاً من أشكال التوازن النفسي والأخلاقي للشخصية المصرية، فلم تعد المدرسة أو المسجد، بأوضاعهما الحالية والمترهلة، قادرين على النهوض بتلك المهمة خير الأداء.
ربما بدا التصوف في بعض اللحظات، في وعي البعض، البديل المضمون والآمن لاستقرار المجتمعات والدول، لكن علينا أن نعيد طرح جملة من الأسئلة:
ماذا فعل التصوف بالوجدان المصري عبر قرون من الفعل والحضور؟ هل أصبحنا كمصريين أكثر سلاماً مع الكون والعالم ومع أنفسنا بالأحرى؟ هل غلبت على الشخصية المصرية طبائع التسليم والرضا والصبر والشكر والزهد في الدنيا والثقة في الله؟ هل اطمأنت نفوسنا للرزق والأجل فلم يتملكنا السعار والهلع والحرص والأثرة والطمع وغيرها من أمراض النفس، التي يعنى التصوف بالأساس بعلاجها وقمعها، وإذا لم يكن كل هذا قد حدث فلماذا؟
سبق التصوف، بقرون طويلة، كل جماعات الإسلام السياسي في الحضور في الساحة المصرية؛ حيث لم يتجاوز تاريخ وجود تلك المذاهب السياسية الدينية قرناً واحداً من الزمان.
تعمّقت جذور الحركة الصوفية في مصر مع دخول عمرو بن العاص، ويعود البعض في التأريخ للتأثير الصوفي في مصر إلى عهد الفراعنة، وصولاً إلى المسيحية، باعتبار أنّ الصوفية تعبير عن الانعزال والرهبنة، وتجنّب زخارف الدنيا، والمبالغة في عشق الذات الإلهية، وكلّها معانٍ كانت موجودة في مصر القديمة؛ فالطقوس المتعلقة بمعاملة خاصة للرموز الدينية، التي كان الفراعنة يمارسونها، استمرت لترتدي ثوب المسيحية بعد ذلك، وعندما أتى الإسلام ارتدت أيضاً ثوبه في صورة سبقت ما يسمّى “التصوف الطرقي”، لكنّ الجوهر لم يتغير.
أعتقد أنّ ظلّ السلطة الثقيل مع القرن الماضي، كان له تأثير كبير في الوصول إلى تلك الأوضاع.
يعتقد المؤرخون أنّ التصوف الإسلامي الفردي في مصر، يعود إلى عهد ذي النون المصري (المتوفَّى عام 245 هـ)، بينما يعود أول تنظيم صوفي جماعي إلى عهد السلطان صلاح الدين الأيوبي، الذي دعم التصوّف، وشهد عهده توافداً كثيفاً لرموز الصوفية من كلّ العالم الإسلامي، فأسسوا الطرق الكبرى، وراحت تلك الطرق تتفرع وتزداد حتى وصلت الى العدد الكبير الذي هي عليه الآن.
من هؤلاء: الشيخ أبو الفتح الواسطي، الذي وفد من العراق، وأسّس الطريقة الرفاعية. وأحمد البدوي؛ الذي وفد من المغرب وأقام بطنطا، وأسّس الطريقة الأحمدية.
وأبو الحسن الشاذلي؛ الذي وفد من المغرب أيضاً، وأسّس الطريقة الشاذلية.
وبعد تلك الطرق الرئيسة الأقدم، اتسعت ساحة التصوف الطرقي، لتبرز رموزاً جديدة؛ كعبد الرحيم القنائي، وإبراهيم الدسوقي، وابن عطاء الله السكندري.
اختلطت الظروف الطبيعية بالظروف والدوافع السياسية في رسم مسار تلك الحركات، وإفساح الفضاء لانتشارها، فقد كان صلاح الدين الأيوبي، مثلاً، يهدف من خلال إرساء مؤسسات للمتصوفين السنّة، أن يستخدمهم سلاحاً في مواجهة الأفكار الشيعية الباطنية التي خلّفها الفاطميون في مصر.
وفي أواخر العهد الأيوبي وبداية العهد المملوكي، تحديداً في القرن السابع الهجري، ازدهرت الصوفية بشكل كبير، وأطلق على هذا القرن “قرن الصوفية”؛ فخلاله تعاقب على حكم مصر سبعة عشر حاكماً؛ ستة من بني أيوب، وأحد عشر من المماليك، وفيه زادت المظالم واشتدّ الصراع على السلطة، وأضحى أغلب المصريين فقراء معدمين، وانتشرت البطالة والمجاعات والخرافات؛ لذا أخذ الحكام يستغلون الصوفية ليشغلوا الناس عن التفكير في سوء أحوال البلاد، فاتخذت الصوفية في العهد المملوكي شكل التنظيم العسكري، متوافقة مع طبيعة الدولة آنذاك، التي كانت مستنفرة للحرب دائماً.
وفي العهد العثماني؛ شهد التصوف نزولاً إلى أعماق المجتمع المصري، وانخراطاً أكبر في صفوف الجماهير، وأخذ نفوذ المتصوفين يتسع، وازداد عدد الزوايا الخاصة بهم، وقسموا مصر إلى مناطق نفوذ بين أوليائهم، وتلاشت السلطة الواحدة لشيخ الشيوخ، التي كانت من سمات العهدين؛ الأيوبي والمملوكي، وحلّ محلّها نظام يقوم على أربعة أعمدة رئيسة، يشكلون القيادة التي تشرف على الطرق الصوفية في مصر، واستقرت السلطة في أربعة بيوت أو عائلات: بيت السادات بني الوفا، وبيت محمد شمس الدين الحنفي، وبيت مدين الأشموني تلميذ الحنفي، وبيت أبي العباس الغمري.
ظلّ هذا النظام معمولاً به، حتى بسط الشيخ السادات (المتوفَّى 1812 هـ) سيادة واضحة على الطرق ومشايخها، في أواخر القرن الثامن عشر، فكان يصدر أوامره إلى فرق الأحمدية والسعدية والشعيبية، بأن تمرّ بداره أمام المولد النبوي، فينصاع الشيوخ له، راضين أو كارهين.
فلما تولّى الشيخ محمد توفيق البكري مشيخة الطرق، عام 1892م، استصدر لائحة رسمية، في 2/6/1902، جعلت لشيخ المشايخ سلطة إدارة شؤون المتصوفين بواسطة مجلس يتكون من كبار مشايخ الطرق، وأربعة أعضاء من شيوخها، ينتخبون كل ثلاثة أعوام، فيما صدرت لائحة داخلية أخرى ملحقة على لائحة البكري هذه عام 1905، اشترطت ألا يتم تعيين أي شيخ لطريقة صوفية، إلا إذا كان من أهل العرفان والكمال.
لا أعلم بالطبع كيف كان يمكن الحكم على تلك المعايير في الأشخاص، وظلّ العمل بتلك اللائحة قائماً حتى عام 1976؛ حيث لم تدخل ثورة يوليو 1952 تعديلاً جوهرياً على التنظيم الصوفي؛ بل تعاملت مع الهيكل الصوفي القديم كما هو، حرصاً منهم على تدعيم شرعية النظام الجديد، ولم تناصب بعض شيوخ الصوفية العداء، رغم أنهم كانوا في حماية القصر الملكي، وفتحت الطريق أمامهم أيضاً في سياق إحداث توازن مع التأثير الإخواني، وأصبح الاتجاه الصوفي، بشكل عام، أكثر الاتجاهات الدينية ولاء للنظام الجديد، باستثناء بعض الطرق التي تعقبها النظام كالبكتشاية، التي اشتبهت الحكومة في ارتباطها بنظام ما قبل الثورة، والدمرداشية التي صودرت أموالها عام 1961، والحصافية التي اشتبه في ارتباط بعض مريديها بالإخوان المسلمين، وكذلك النقشبندية.
عام 1976 شهدت الصوفية تطوراً مهماً؛ حيث صدر القانون (رقم 118)، والمعمول به حتى اليوم، الذي رتّب حضوراً كثيفاً لرجال الحكومة في هيكل المجلس، ومنع القانون إنشاء طرق صوفية جديدة، إلا إذا كانت غير متشابهة مع الطرق الموجودة، وقد صف البعض القانون بأنّه بمثابة تأميم للصوفية؛ فقد استطاع أن يربط الطرقية بالسلطة أكثر مما كان عليه الحال في السابق، ومع ذلك بقيت طرق تقع خارج الهيكل الرسمي للصوفية، إما لأنّ المجلس الأعلى لم يعترف بها، أو لأنّها لم تحصل على تصريح رسمي بالعمل.
بدا هذا السياق من التدخل الحكومي لوناً من التعطيل لجهد كبير في إصلاح الوجدان والسلوك المصري، كان من الممكن أن ينجح لو كانت المساحة المتروكة لتلك الحركات أكثر حرية، وأقلّ في القيود التنظيمية والإدارية، بالشكل الذي يجعلها أكثر حرية في التعاطي مع الناس، وربطهم بأخلاق التصوّف، التي أراها تصلح مدخلاً لنهضة سلوكية وأخلاقية، عبر تصوّف طرقي أو فردي معاً، ولا أظنّ أن تنجح أيّة خطة نهوض، أو تحديث دون ذلك.
نقلاً عن حفريات