نزهة بوعزة
باحثة مغربية
نتناول هنا جزءاً من الأطروحات التي أثارها الكاتب السوري المقيم بألمانيا حسام الدين درويش من خلال كتابه “في فلسفة الاعتراف وسياسات الهوية”، وهو كتاب يضعنا أمام كثافة مفهومية، هذه الكثافة التي يتم إعادة مفهمتها من جديد: الاعتراف، التسامح، الإنصاف، العدالة، الثقافوية، الهوية، … ليسطو بشكل ما مفهوم الاعتراف كحل يعكس إمكانية لتبلور في السياق العربي انطلاقاً من الآفاق الواعدة في السياق الغربي. حتى وإن كانت هناك صعوبات على سبيل المثال المقاربة الثقافوية وسياسات الهوية، وهو الكتاب الذي صدر عن دار “مؤمنون بلا حدود” خلال عام 2023 أي قبل أحداث غزة، حيث الاعتراف بحق الآخر المختلف يواجه إشكالاً حقيقياً، ممّا يثير جدوى فلسفة الاعتراف راهناً؟
يمكن تسطير أهم أطروحات الكتاب من خلال النقط التالية:
-اللحظة التأسيسية لفلسفة الاعتراف بدأت مع روسو وليس مع هيجل ولا مع أفلاطون، مع العلم أنّ روسو لم يستعمل الاعتراف لدلالة على مفهوم الاعتراف بمعناه المعاصر، فقد كان يميز بين الحب الشخصي الحب الخاص، وحب الذات لنفسها، فالأول هو الذي يعني الاعتراف أي رغبة الإنسان في الحصول على حب الآخر.
-هناك إمكانية للربط بين العدالة والاعتراف في الفلسفات السياسية والأخلاقية والاجتماعية المعاصرة، إذ تعدّ من أبرز الرؤى المعاصرة بعد أطروحة راولز حول العدالة كإنصاف في سبيعينات القرن الماضي، فعملية الربط ما بين العدالة والاعتراف بدأت خلال ثمانينات القرن الماضي، لكنّها تسارعت خلال العقدين الأخيرين بشكل لافت.
– التشكيك في هذا الربط أو التوجه النقدي السلبي الذي ينطلق من أنّ الحضور القوي لسياسات الهوية في فلسفة الاعتراف يخلق صراعاً سلبياً بين هويات ثانوية أومحلية، لهذا يدعو الكاتب إلى فصل فلسفة الاعتراف عن سياسيات الهوية، وربطها بالمقابل بحقوق الإنسان لتجاوز هذا الخلاف والتركيز بالمقابل على التأكيد على جدوى وفاعلية ثقافة الاعتراف، رغم هذا التوجه السلبي الذي قد يتخذ ذريعة للانتقاص من جدواها. فالاعتراف يجب أن يرتبط أوّلاً بالأساس الأخلاقي الإنساني المشترك، وعلى أساسه يمكن الاعتراف بالهويات الأخرى، وهنا إمكانية تكامل المنظور الجماعاتي مع منظور فلسفة الاعتراف.
فقيمة الاعتراف هي الأهم إذا قارناها بين كل من الإنصاف أو التسامح، الاعتراف يتجاوز هذين المفهومين، ليس بناءً على التسامح أو الإنصاف، بل من منطلق الإقرار بحق الآخر، نحن إزاء عملية إلزامية إقرارية تحققها بالضرورة يتضمن المفهومين السابقين. لأنّ الاعتراف عدالة تعكس احتراماً حقوقياً بين المختلف فيما هو مشترك بين الناس، بغض النظر عن أيّ اختلاف بينهم، أي فصل سياسات الهوية عن فلسفة الاعتراف وربطها بالمقابل بحقوق الإنسان. فالموقف الذي يتبناه صاحب الكتاب أقرب إلى نوع من الليبرالية المساواتية، أي الانطلاق من الاعتراف بحقوق الإنسان الفرد، ثم تأتي بالدرجة الثانية عملية الاعتراف بحقوق الفرد المنتمي لجماعة أو بلد معين، فالاعتراف بالجماعات وحقوقها يجب أن يمر بالاعتراف بالأفراد وحقوقهم.
إذن، القراءة تنطلق من سياقين؛ السياق الغربي الذي يغلب عليه منظومة حقوق الإنسان الليبرالية الفردية، ممّا عمل على تحجيم الهويات الجماعاتية، في المقابل السياق العربي حيث يغلب حضور الهويات الجماعاتية ممّا يشكل خطراً على حقوق الأفراد وحرياتهم، الأمر الذي يحيلنا على المقاربة الثقافوية التي تقوم على تفسير كل شيء انطلاقاً من الثقافة السائدة في المجتمع والدولة، وفي الغالب تختزل في الدين، فيغيب مفهوم الفرد، إنّ الاعتراف بقيمة الفرد مرهون بالعلاقة مع الآخر، أنا ما يعترف به، أي ما أنا عليه، إننا إزاء مفهوم الديمقراطية الليبرالية، وهو اعتراف لا يرتبط فقط بالأفراد وإنّما أيضاً بالجماعات.
لكن بالمقابل فإنّ ربط الديمقراطية بالمقاربة الثقافوية والقول مثلاً إنّها سبب معطل للديمقراطية أو للعلمانية هي عملية اختزالية مركبة تختزل السياسية في الثقافة، والثقافة يتم اختزالها في الدين، هذه المقاربة تخندق الفرد ضمن الجماعة، ممّا يعمل على تغييب الاختلاف، فالقول إنّ الإسلام هو المشكل، أو القول نقيض ذلك بعيداً عن توجيه أصبع النقد نحو مصدر وموجه هذه الثقافة أشبه بعملية تموهية تعطيلية، تتخبط في معركة وهمية غير مجدية، إذن نحن هنا أمام توجه دوغمائي لاهرمينوطيقي.
أهم ما يمكن أن يسجل فيما أثير هنا من طرف الكاتب هو تجنب توجيه الاتهام للمقاربة الثقافوية الدينية، إذ نجده على عكس المعتاد يوجه أسهم الاتهام إلى المقاربة الثقافوية العلمانية، وهذا لا يعني أن ينفيها عن الأولى، لكنّه يضعهما في سلة واحدة، هما معاً ينسجان خطاباً لا واقعياً يغطي عجزه عن مقارعة المقاربة السياسية بمعارك وهمية. إذ في النهاية فإنّ المثقفين العرب غالباً ما لايستطعون التعبير بشكل مباشر سواء نقداً او تعبيراً، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالنمط السياسي.
ما نلمسه في نهاية هذه القراءة هي رغبة ملحة لتقديم قراءة نوعية، وهو بذلك يثير بالمقابل إشكالية فائدة الكتابة إن لم تكن نوعية فقد تساهم في تحريك بركة النقاش الفكري العربي، فحتى وهو يتفحص قراءات العديد من النماذج الفكرية على الخصوص العربية يحرص على التنقيب عمّا يبني به عوض الخوض فيما قد نسميه المحاباة النقدية التي تخشى الإفصاح عن سهام نقدية مباشرة، ذكرني كتاب درويش بنوعية الكتابات الألمانية المعاصرة وبعض الكتاب العرب، الكتابات التي تحاول أن تبني إطاراً إيجابياً قد يشكل منفذاً أو مفتاحاً لسياقنا العربي، وتخندق بالمقابل الكتابات الأخرى بباب لا جدوى.
بحكم السياق الراهن للحرب على غزة أثير هنا نموذج ألمانيا، بناء على ما أثاره في نهاية الكتاب حول الترحيب الألماني للمختلف، ألمانيا تعترف بالهولوكست، ولا تعترف بما تمارسه إسرائيل إزاء فلسطين، هنا نلمس التطرف الألماني المؤسس والمنظم من طرف الدولة، إذن هناك نوع من الانتقائية في الاعتراف، فالاعتراف الأول يقصي أيّ إمكانية لإدراج اعتراف آخر، كأنّ الاعتراف بالآخر الفلسطيني قد ينفي الاعتراف الأول بالهولوكست، ويخندقك بباب معاداة السامية.
إنّ التطرف هنا يأتي بمعنى منع التفكير خارج تفكيرهم المعلن. فتكون ثقافة الاعتراف راهنية ملحة في السياق الغربي والعربي على حد سواء.
إذن هناك بون بين التأسيس النظري لفلسفة الاعتراف في السياق الغربي وواقع الاعتراف خصوصاً في مسألة التعاطي مع المختلف، وهو ما بدا بشكل واضح إزاء الأزمة الفلسطينية، صحيح أنّ السياق الغربي خطا خطوات متقدمة في التأسيس لفلسفة الاعتراف، غير أنّ هذه الخطوات على ما يبدو ما يزال يعترضها الكثير من العقبات التي تجعل من الاعتراف بالآخر اعترافاً يخص الغربيين فقط، وفي نطاق مرتبط بشكل كبير بهوياتهم التاريخية. فقط يسقطنا الأمر في المقاربة المعيارية أو حتى المقاربة المثنوية التي غالباً ما نبهنا إليها الكاتب، لكن يبدو أنّ الأمر يسطو من جديد مع مشاهد المجازر التي تشهدها غزة.
نقلاً عن حفريات