وضاج عبدالباري طاهر
إنَّ مما يحمد عليه المنهج الذي توفرنا على دراسته في مدارسنا – على علاته وعلله الكثيرة طبعاً – هو التركيز على الجانب الإنساني للإسلام، سواء في السيرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، أو في قصص الصحابة رضوان الله عليهم.
لقد كان أهم ما يشعرنا بالتميز عن الآخرين، على ضوء ما درسناه، هو أن حضارة الإسلام التي ننتسب لها، ونعتزي إليها، حضارة إنسانية راقية. وما إن خرجنا من المدارس، وأقبلنا على الاستزادة من القراءة في كتب التاريخ والسير والتراجم، وكتب العقائد والملل والنحل، حتى هالنا ذلك الافتراق الذي وجدنا أنفسنا فيه، واصطدمنا بالتشظي الذي صرنا إليه.
لقد شهدنا صراعات بين المذاهب، وفتنًا بين الطوائف، وتفسيقًا وتكفيرًا، وتخوينًا وتأثيماً، أضاع المسلمون فيها دهراً طويلاً دون أن يجنوا ثمرة سوى الضعف والهوان، والانحطاط والتشرذم.
لقد كانت هذه العقائد التي ولدتها عصور الاستبداد والتعصب والانحطاط كفيلة بأن تقضي حتى على أقوى العلاقات الإنسانية الفطرية وأشدها رابطةً وإحكامًا.
هذا الصوفي الكبير الحارث بن أسد المحاسبي، كما يذكر الذهبي، يتعلق بوالده بمرأى من الناس طالبًا منه أن يطلق أمه؛ لأنها على دين، وهو على غيره.
وهنا قد يسأل سائل فيقول: وما عسى أن يكون هذا الدين الذي كان عليه أبو الحارث؟
لقد كان أبو الحارث بكل بساطة واقفياً؛ أي: إنه كان يتوقف في القرآن، فلا يقول مخلوق أو غير مخلوق! وعندما مات أبو الحارث لم يرث الحارث من أبيه شيئاً، وقال: أهل ملتين لا يتوارثا!([1])!!
أما إمام الشافعية في عصره أبو الخير العمراني، فقد تبرأ من ولده طاهر، وهجره؛ لاعتناقه مذهب الأشعرية، ولم يزل به حتى أعلن توبته أمام الملأ على ظهر المنبر، وقد كان أبوه في الاعتقاد على مذهب الحنابلة!([2]).
ألم تحمل العقيدة الإمام عبد الله بن حمزة بأن يتوعد المطرفية التي اختلف معها، فيقول في خطاب له: «فإن ظهرنا عليهم- بنصر الله- قتلنا المقاتلة، وسبينا الذرية، وبعنا النساء والعيال كما يُفعل بالمشركين، ولم يكن عندنا لكل حالم إلا السيف؛ لأن هذا حكم الله وحكم رسوله!»!([3]). مع أنَّ في هؤلاء المطرفية جمع لا يستهان به ممن يجمعهم مع ابن حمزة نسب واشج، ورحم قريبة.
ويذكر ابن أبي الرجال أنَّ الحسين بن عبد الله بن شبيرة إمام جامع ريدة، كان يمتنع عن الصلاة وراء أخيه، والأكل من ذبيحته([4])؛ كونه على مذهب المطرفية، وكان أخوه على مذهب المخترعة، وكلا المذهبين على مذهب الزيدية.
فإذا كان هذا صنيع العقائديين التكفيريين مع الأقارب، فما عساه أن يكون مع الأباعد؟
ويتحدث ابن عربي عن الشافعية والأحناف، فيقول: «أُخبِرنا أنهم يقتتلون في بلاد العجم أصحابُ المذهبين، ويموت بينهما خلق كثير، ويفطرون في شهر رمضان ليتقووا على القتال»!([5]).
وهذا ابن تومرت مؤسس دولة الموحدين، يقول: إنَّ مراعاة القيام بأمر الله أولى من مراعاة إراقة الدماء، وذهاب النفوس والأموال. فكان نتيجة ذلك أن قام بعمليات تصفية رهيبة سماها «التمييز» أفنى فيها قبائل بأسرها تدين بالإسلام!([6]).
أما الفتن الواقعة بين الشيعة والسنة، فما عليك إلا أن تتصفح فهرست تاريخ (الكامل)، لابن الأثير، لتستخرج من كل مجلد عدة فتن بين الطائفتين، لاسيما في بغداد.
وباستعراض تاريخ التعصب والتكفير- يلوح هذا السؤال: هل تغير المشهد الثقافي اليوم على مستوى الوطن العربي والإسلامي، أو حتى على مستوى اليمن عما كان عليه في الماضي كما يرصده ابن الأثير أو الذهبي أو ابن كثير أو غيرهم من المؤرخين؟ والجواب بالطبع: لا..
إن خشبة المسرح الثقافي «الخالدة» ما زالت تعرض وتكرر نفس الصراع الذي عرضته بالأمس، وما زال الجمهور العربي لا يشعر بأي مسافة زمنية تفصل أطراف الصراع بعضها عن بعض أو تفصله هو عنها، الأمر الذي يذكرنا بذلك الشاعر العربي الذي يقول لأحد ممدوحيه الذي أشبه أسلافه:
وأريتنا ما غاب من أخلاقهم ورددت فينا اليوم تلك الأعصرا
هذا ما لا حظه أحد المفكرين العرب، وهو على حق، حين رأى أن هناك تداخلاً بين «العصور» الثقافية في الفكر العربي منذ الجاهلية إلى اليوم، مما يجعل منها زمناً ثقافياً واحداً يعيشه الإنسان العربي كزمن راكد يشكل جزءًا أساسيًا وجوهريًا من هويته الثقافية وشخصيته الحضارية. والسمة البارزة في هذا الزمن الثقافي الواحد هي: حضور القديم، لا في جوف الجديد يغنيه ويوصله، بل حضوره معه جنباً إلى جنب ينافسه ويكبله.
إن التاريخ الثقافي العربي السائد الآن هو مجرد اجترار وتكرار، وإعادة إنتاج بشكل رديء لنفس التاريخ الثقافي الذي كتبه أسلافنا تحت ضغط صراعات العصور التي عاشوا فيها، وفي حدود الإمكانيات العلمية والمنهجية التي كانت متوافرة في تلك العصور، وبالتالي فنحن مازلنا سجناء الرؤية والمفاهيم والمناهج القديمة التي وجهتهم؛ ما يجرنا – دون أن نشعر – إلى الانخراط في صراعات الماضي ومشاكله، وإلى جعل حاضرنا مشغولاً بمشاكل ماضينا، وبالتالي النظر إلى المستقبل بتوجيه من مشاكل الماضي وصراعاته.
فعلى العلماء المستنيرين والتربويين والمفكرين والمثقفين أن ينهضوا للتصدي لهذه الظاهرة؛ وذلك عن طريق إصلاح نظم التعليم بما يتلاءم مع متطلبات الحياة الحديثة، والتعريف بجوهر الإسلام الذي يقوم على الرحمة والرفق والقبول بالرأي الآخر؛ وذلك بتعايشه في الماضي مع الأقليات الدينية (يهودية، نصرانية، مجوس، صابئة)، وإدخال المناهج الحديثة في نظم التعليم، ووضع الفلسفة الحديثة ومناهج النقد ضمن مقرراتها، والانفتاح على ثقافة الآخر عن طريق تعلم اللغات الأجنبية، وإقامة الندوات التي تقوم على الحوار وتبادل الآراء للتعريف بقيم الإسلام الصحيحة التي تنبذ العنف والغلو والتطرف.
وتجديد الخطاب الديني تجديد نتجاوز به إشكالات الماضي وصراعاته، وفتح أبواب الحوار لبحث مسائل الخلاف، وتقريب وجهات النظر، بعيدًا عن التكفير والتخوين.
كما ينبغي إعادة النظر في العلاقة بين الدين والدولة، لقد كان كثير من حالات الصراع الأيديولوجي الذي شهدناه، وما زلنا نشهده في تاريخنا الإسلامي، يدار بتوجيه من السياسة؛ إذ كانت بعض الدول تتبنى منظومة فكرية معينة، وتضطهد ما سواها؛ وهذا ما يزيد في معدل العنف، ويديم أمد الصراع، ويبقي حالة من الاحتقان في المجتمعات التي تحوي أطيافًا شتى؛ فينبغي إقامة برزخ بينهما؛ أي الدين والدولة؛ حتى لا يبغي أحدهما على الآخر، وفي هذا الإجراء – أيضاً – حفاظ على الكيانين: الدين، والدولة معاً.
نقلاً عن “مؤمنون بلا حدود”