إبراهيم غرايبة
كاتب أردني
ما التحولات التي جرت في البيئة السياسية والاجتماعية المحيطة بعمل الدول والمجتمعات، منذ تبلور الدولة العربية الحديثة، في أوائل القرن العشرين، وبشكل واضح ومستقر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية؟ وما التحولات التي جرت للإسلام السياسي الجماعاتي في نشأته ومرافقته لحراك الدول والمجتمعات؟ في الإجابة أو محاولة الإجابة عن السّؤالين، تمكننا ملاحظة أزمة الإسلام السياسي (وأزمة الدول والمجتمعات أيضاً)، وفي ذلك نتجنّب الانزلاق، ما أمكن، وراء كثير من الأحداث اليومية، والتصريحات الإعلامية، والمحاولات المفهومة، في تأكيد شرعية وصواب أطراف الصراع، لكن إذا كانت الشرعية هاجساً لجماعات الإسلام السياسي، كما هي أيضاً هاجس السلطات السياسية؛ فإنّ محاولة الفهم لا يشغلها ذلك كثيراً، إلّا بقدر ما تساعد في الفهم السوسيولوجي، باعتبار الإسلام السياسي ظاهرة سوسيولوجية، ويمكن القول، على سبيل الإشارة، إنّ الإسلام السياسي الجماعاتي كان مصدراً للشرعية والمصداقية للأنظمة السياسية، لكن، في مرحلة لاحقة، صارت هذه الشرعية موضع نزاعٍ وصراعٍ، وإذا كانت السلطة تمتلك دائماً، إن لم يكن غالباً، شرعيتها الواقعية؛ فإنّ ما يجب أن تفهمه الجماعات، أنّها ابتداء “جماعات”؛ بمعنى أنّها كتل اجتماعية تعبّر عن أهداف ومصالح اجتماعية وطبقية، وأنّها تستمدّ شرعيتها من تمثيلها للمصالح والأهداف التي أنشأتها، وتعبّر عنها، وأنّها تعمل ضدّ نفسها، وضدّ روايتها المنشئة، في حالة تحوّلها، أو سعيها للتحول، لتكون سلطة سياسية، أو شريكاً سياسياً للسلطة، وهذا ما يجب قوله وتكرار قوله، عند كلّ محاولة لفهم سياقات التشكّل والصراع، في الدول والمجتمعات والطبقات، ومنها -بطبيعة الحال- جماعات الإسلام السياسي، التي لن تكون استثناء من هذا السياق.
وعلى سبيل المثال، أو كحالة تمكن ملاحظتها؛ فإنّ جماعة الإخوان المسلمين في الأردن، تشكّلت في منتصف الأربعينيات، وكانت مشغولة بالعمل الاجتماعي والوطني العام، ويقوم عليها مجموعة من التّجار، ثمّ تحوّلت، في منتصف الخمسينيات، إلى جماعة سياسية فتيّة، غادرها معظم مؤسسيها، والجيل المرافق، لتشكّل تحالفاً مع النظام السياسي، في مواجهة المدّ القومي واليساري، ثمّ تحوّلت، في أوائل السبعينيات، إلى حركة جديدة بتركيبة اجتماعية وقيادية شابة وجديدة، مختلفة كلياً عمّا سبق، وذات زخم كبير مستمَدّ من المدّ الإسلامي الجديد، وأفكار سيّد قطب، المختلفة جذرياً عن الفكر الإصلاحي لحسن البنا.
وربما تكون التحولات الكبرى والجذرية، القائمة اليوم في البيئة المحيطة بجماعات الإسلام السياسي، مدخلاً لتحولات وتحديات كبرى، تعيد تعريفها وصياغتها مرّة أخرى، فالمشهد الإسلامي والعام اليوم، يبدو مختلفاً، بدرجة كبيرة، عمّا كان عليه حتى أواخر الثمانينيات، ويمكن، بسهولة وسرعة، عرض مجموعة كبيرة ومعقدة من الظواهر والتحولات، والأحداث الكبرى، التي تؤثر -على نحو مباشر وعميق جداً- في مسار الجماعات، ومنها الإسلامية، مثل: صعود الجماعات والتيارات السلفية، وجماعات العنف والتطرف، وتنامي العمل الإسلامي المجتمعي المستقلّ عن الحركات الإسلامية، والحوار الغربي مع الحركة الإسلامية، واحتمال نشوء تحالف معها، وزيادة تأثير ونفوذ الحركات الإسلامية في الحياة العامة والسياسية، والصراعات والتعقيدات التي أحاطت بالأحداث والعلاقات، خاصة منذ الربيع العربي.
عام 1989، وجدت جماعة الإخوان المسلمين في الأردن نفسها في مرحلة بعيدة، مختلفة تماماً عمّا سبق، وتقدّمت لقيادتها مجموعة قيادية جديدة، تطرح أفكاراً ومشروعات كبيرة وواسعة، تتفق مع انطلاقة العمل السياسي والآمال الواسعة، التي تشكّلت مع المرحلة الديمقراطية والانتخابات النيابية. لكنّ الحركة الإسلامية، رغم ذلك كلّه، لم تشكّل نفسها وفق هذه المرحلة، فلا هي تقدّمت إلى الحياة السياسية بالمدخلات الجديدة المتاحة، ولا بقيت حركة دعوية اجتماعية، كما كانت من قبل، وتنازعتها اتجاهات ومصالح مجموعات ظلّت تسيطر على مؤسساتها، وإن خرجت من قيادتها، وتتسلّح بالتطرّف، وغالباً ما يكون التطرّف ملجأً تحتمي به المجموعات والمجتمعات، أكثر ممّا هو مكوّن بنيوي أصيل.
كانت استجابات الجماعات الإسلامية السياسية لهذه التحولات الكبرى، التي تغيّر من علاقاتها ودورها، على نحو عفوي ويومي، لا يستحضر الإدراك المسبق والمنظم لهذه الاستجابات، وأبعادها، ومقتضياتها، وإن كان يتضمّن قدراً كبيراً من الاستشعار والتكيف، لكنّها استدرجت إلى حالات ومواقف ملتبسة ومربكة، خاصة في حالة العلاقة بين الدعوة والسياسة، وبين الجماعة والسلطة، وبين الجماعة والمجتمعات، ويجب أن يقال: إنّها كانت، أيضاً، أزمة الحكومات والمجتمعات والأحزاب والمؤسسات جميعها، فقد كانت، وما زالت، في حالة من الحيرة والتيه والارتباك.
وباختصار بسيط؛ إنّ جماعة الإسلام السياسي في حاجة، في هذه المرحلة، إلى أن تبحث عن تعريف لنفسها، يختلف عمّا كانت عليه طوال العقود الماضية، وهو تعريف يجب أن يكون مستمدَّاً من رؤية دورها، وما تسعى إليه بالفعل، وقد يكون ذلك في استعادة دورها الاجتماعي الإصلاحي، لتقود المجتمعات والطبقات الوسطى نحو إعادة تنظيم نفسها، باتجاه مصالحها الجديدة والمهدَّدة، أو تتحوّل إلى أحزاب سياسية.
وعودة إلى المثال الأردني، ولنلاحظ كيف خرجت من جماعة الإخوان المسلمين ثلاثة أحزاب سياسية، هي: الوسط الإسلامي، والمؤتمر الوطني، والشراكة والإنقاذ، ثم انقسمت الجماعة نفسها، تجاه علاقتها القانونية بالسلطة التنفيذية، ففي حين بادرت مجموعة من الإخوان المسلمين إلى تسجيل نفسها باسم “جمعية جماعة الإخوان المسلمين”، تعمل وفق القوانين المنظمة للجمعيات، فقد أصرّت مجموعة كبرى من الجماعة، أن تعمل على نحو ملتبس، وغير واضح، وغير قانوني أيضاً، موقعة نفسها في أوهام عدم حاجتها إلى التنظيم القانوني لوجودها، ولعلاقتها بالسلطة، لكن، رغم كلّ هذه التصدعات والأزمات المتلاحقة، ما زالت جماعة الإخوان المسلمين، التي تسمّي نفسها “الأم”، تمييزاً للجماعة المسجلة لدى الجهات الحكومية المختصة، تصرّ على أنّها تخوض صراع الحقّ والباطل، وتستعير أمثلة التاريخ الإسلامي والسيرة النبوية، في الصراع بين المسلمين وغير المسلمين، وبالطّبع هي ترى نفسها تمثّل الحقّ الإلهي، الموعود بالنصر أو الشهادة، وفي الحالتين جنّات الخلد، والنّعيم المقيم.
نقلاً عن حفريات