كريتر نت – متابعات
خطت القاهرة خطوة مهمة بتبنيها سعرا مرنا للصرف الأربعاء، واقتراب قيمة الجنيه عمليا من السعر الحقيقي السائد في السوق الموازية (السوق السوداء)، ما يمنح المستثمرين فرصة الاستثمار بأريحية، ويسترضي صندوق النقد الدولي الذي طالب بهذا الإجراء لمنع تزايد أضرار الفرق الشاسع بين قيمة الجنيه في البنوك الرسمية وقيمته في السوق الموازية.
وتتضمن القرارات التي اتخذها البنك المركزي الأربعاء فواتير سياسية واجتماعية قد يدفعها النظام المصري والشعب معا، إذا لم يتمكنا، أو لم يتمكن أحدهما، من التعامل مع نتائجها المختلفة، والتي تنطوي على صعوبة بالغة في تجاوز الأزمة الاقتصادية الراهنة. وبدت الحكومة مستعدة لتجرّع سُم تبنّي سعر صرف مرن، وهيأت المواطنين لذلك عبر جرعات مختلفة من الإصلاحات الاقتصادية الصعبة سابقا، انعكست سلبا على السلع والخدمات التي زادت أسعارها، وسعت إلى توفير شبكات عديدة للحماية الاجتماعية بهدف التخفيف من تداعيات الإجراءات التي اتخذتها لتصويب مسار الاقتصاد المصري.
وأقدمت القاهرة على اتخاذ تلك الإجراءات بعد أن اطمأنت إلى إمكانية تدفق عملات أجنبية من وراء عمليات بيع أصول والدخول في شراكات مع مؤسسات عربية كبيرة، ما يؤدي إلى ارتفاع قيمة الجنيه مستقبلا، ويفسح المجال لتقييم عادل له يقوّض تشوهات اقتصادية أبدى صندوق النقد اعتراضه عليها. ورفع البنك المركزي المصري أسعار الفائدة 600 نقطة أساس في اجتماع استثنائي، وسمح بأن يتحدد سعر الصرف وفقا لآليات السوق، في خطوة ترمي إلى إعادة الاستقرار الاقتصادي من خلال دعم تدفقات استثمارية خليجية.
وانخفض الجنيه المصري بشكل حاد مقابل الدولار مع افتتاح الأسواق الأربعاء ليتجاوز سعر الصرف خمسين جنيها من مستوى 30.85 جنيه قبل اتخاذ الخطوة. وتلوح في أفق المشهد الاقتصادي بعض العلامات السلبية التي تؤشّر على إمكانية ارتفاع سعر الدولار من جديد عقب مكاسب حققتها البورصة المصرية، على الرغم من ارتفاع معدلات الفائدة بشكل غير مسبوق، في ظل العلاقة العكسية بينهما.
ولا يعد صعود أسواق المال في فترات الأزمات ورفع الفائدة عاملا إيجابيّا؛ إذ يشيران إلى متغير آخر هو سعر العملة، فالارتفاع الحالي للبورصة معناه أن المستثمرين يقومون بشراء أسهم يعتبرونها أصلاً سوف ترتفع قيمته مستقبلاً، استنادًا إلى أن الجنيه سيواصل الانخفاض وأن السوق الموازية لن تزول قريبًا.
وحوت قرارات البنك خفضا طال انتظاره لقيمة العملة المحلية من خلال تبني تطبيق سعر صرف أكثر مرونة، وهو من المطالب الرئيسية لصندوق النقد الدولي. ويعتبر توحيد سعر الصرف إجراءً مهمّا يساهم في القضاء على تراكم الطلب على النقد الأجنبي وسدّ الفجوة بين سعر صرف السوق الرسمية وسعر صرف السوق الموازية.
وقال المحلل الاقتصادي سيد عويضي لـ”العرب” إن “الخطوة المصرية مخاطرة كبيرة وقنبلة موقوتة حال عدم قدرة الحكومة على تلبية كل المطالب المتعلقة بالحاجة إلى الدولار من قبل الأفراد والشركات، ويمكن تقييم الإجراء بعد أسبوع على الأقل”.
وتراهن القاهرة هذه المرة على أن التدفقات الضخمة من العملة الصعبة المتأتية من المشاريع الاستثمارية، في مقدمتها صفقة تطوير منطقة رأس الحكمة التي وقعت مؤخرا مع دولة الإمارات بقيمة 35 مليار دولار، سوف تمنع سقوط الجنيه سقوطا حرّا. وأدى الإعلان عن أن الصندوق السيادي الإماراتي (إيه. دي. كيو) سيضخ 35 مليار دولار خلال شهرين، في إطار صفقة استثمار لتطوير مدينة رأس الحكمة على ساحل مصر الشمالي، إلى تخفيف الضغط عن الجنيه في السوق الموازية.
وأوضح عويضي لـ”العرب” أنه “ينبغي حدوث هبوط في أسعار السلع التي تم الإفراج عنها منذ أيام قليلة، أو تلك التي يتم دخولها حاليًا وجرى تسعيرها نظريًا على سعر دولار يوازي 60 – 70 جنيهًا، وتترقب الأسواق ذلك أملاً في حدوث انخفاض”.
وبالتزامن مع ارتفاع تكاليف التمويل تقوض القرارات الجديدة عمل الشركات والاستثمار، وبالتالي ستشهد البلاد إقبالاً على السندات وأدوات الدخل الثابت وشهادات الاستثمار. وارتفعت قيمة السندات الدولية عقب قرار البنك المركزي، وحققت السندات الأطول أجلا أكبر المكاسب، مثل سندات 2047 التي ارتفعت 3.5 سنت إلى 83.2 سنت.
وتحوم شكوك حول قدرة البنك المركزي على انتهاج آلية سعر صرف مرن لأن ذلك يعني تعويما كاملا وبلا قيود، وهي خطوة يستحيل تفعيلها في مصر التي تعتمد على الاستيراد بشكل أساسي، وتحتاج إلى سيولة دولارية لسداد الديون.
وعلى البنك المركزي انتهاج سياسة “التعويم المدار”، أي التحكم في سعر الصرف حال وصوله إلى مستويات سعرية مبالغ فيها، لأن البورصة وهي “مرآة الاقتصاد” تشير تعاملاتها إلى أن سعر الدولار قد يحقق مستويات قياسية في مصر. وتحوم شكوك حول التزام مصر بالإصلاحات الهيكلية التي أرجأت تنفيذها، ومن بينها تحرير سعر الصرف وتخلي بعض الشركات التابعة للجيش عن نشاطها الاقتصادي.
وقال الخبير الاقتصادي عبدالنبي عبدالمطلب إن الهدف من قرار البنك المركزي احتواء الغضب الشعبي من انفلات أسعار سعر الصرف في السوق الموازية، وتهدئة الأسعار في شهر رمضان، والذي يتسم بزيادة في الاستهلاك لدى المواطنين.
وشدد البنك المركزي على التزامه بالحفاظ على استقرار الأسعار على المدى المتوسط في إطار حرصه على تحقيق الدور المنوط به والمتمثل في حماية متطلبات التنمية المستدامة. وأضاف عبدالمطلب لـ”العرب” أنه “لن تحدث تراجعات في أسعار السلع محليًا، لأن الدولار لن يهبط بالقدر المأمول في البنوك، وقد يصل إلى مستويات سابقة حققها في السوق الموازية، ومع إضافة هامش تحوط من قبل المستثمرين والمستوردين فإن السلع سيتم تسعيرها عند 60 أو 70 جنيها للدولار”.
ولفت إلى تخوف الشارع المصري من عدم نجاح الخطة الحالية والعودة إلى الوراء مثلما وقع عام 2016، وهو ما ينبغي للحكومة أن تعيه، وتفرض رقابة صارمة على الأسعار، فضلاً عن نجاحها في جذب الاستثمارات الأجنبية بمعدلات كبيرة.
ويرى محللون أن التدفقات الدولارية الداخلة من صندوق النقد الدولي، بجانب الأموال العربية المرتقبة، تمكّن الحكومة من الحفاظ على سعر صرف مستقر لفترة معقولة، مع البحث عن موارد أخرى بالاقتراض من الأسواق الدولية أو نجاح برنامج الطروحات الحكومية الذي تزداد فرصه بالتزامن مع وجود سعر صرف مستقر. وخسر الجنيه حوالي نصف قيمته مقابل الدولار منذ أوائل 2022 عندما احتدت أزمة نقص العملات الأجنبية، وهو ما جاء في سلسلة عمليات خفض متقطعة لقيمة العملة.