عبدالله بن بجاد العتيبي
في الدول الحديثة، كان مجال الإعلام والثقافة مجالاً بالغ الأهمية للأحزاب السياسية، سواء كانت في النظام السياسي الحاكم أم في المعارضة، ويشهد تاريخ الانقلابات العسكرية الحديثة أن السيطرة على «وزارة الإعلام» تتزامن مع السيطرة على مقرّ الحكم في الأهمية، ومن هناك يتم إعلان «البيان رقم 1». حدث هذا في الانقلابات الشيوعية حول العالم، وفي انقلابات العسكر في العالم العربي، وكان اختراق الثقافة – قبل الإعلام – هو الممهد الشعبي لكل الأحزاب السياسية الطامحة للسلطة.
اختراق «الثقافة» مهم؛ لأنه يضمن تغلغلاً لهذه الأحزاب في المجالات الاجتماعية كافة، كالفنّ والأدب والترجمة ونحوها، وبناء علاقات طبيعية مع بعض النخب غير المنتمية سياسياً؛ لتكثيف الحضور الاجتماعي، ورفع نسبة التواصل وتعظيم القضايا المشتركة كبيرةً كانت أم صغيرةً؛ ما يمهّد الطريق لاحقاً لاختراق «الإعلام»، قبل الانقلابات العسكرية، والسيطرة عليه تماماً بعدها.
جماعات الإسلام السياسي في العالم العربي هي أحزابٌ سياسيةٌ بالدرجة الأولى، والتعامل معها يجب أن يضع هذه الحقيقة مُسلّمةً ثابتةً؛ لأن أي تعريفٍ آخر بـ«الدينية» أو «الدعوية» أو «الخيرية» أو نحوها وإن كان صحيحاً، فإنه يخفي المعطى الرئيسي الذي يجب قراءة هذه الجماعات من خلاله، لا من خلال بعض الأنشطة الفرعية.
سعت جماعة الإخوان المسلمين المصرية لتسجيل حضورها الإعلامي عبر عدد من المجلات والجرائد التي كانت تصدرها مثل جريدة «الإخوان المسلمين» أو «النذير» أو نحوهما، وهو أمرٌ لم تتوقف عنه كل جماعات الإسلام السياسي مثل «السرورية» أو حزب «التحرير» وغيرهما، وكل تنظيمات العنف الديني التي تفرعت عن الجماعة الأم حتى اليوم مثل تنظيم «القاعدة»، وتنظيم «داعش».
في كل بلدٍ عربيٍ دخلته جماعات الإسلام السياسي تاريخ من الإصدارات الإعلامية على شكل مجلات وكاسيتات وقنوات، وتطورت لاحقاً إلى مواقع إلكترونية و«بودكاست» ومواقع التواصل الاجتماعي، ويمكن هنا تسمية عشرات الإصدارات بالاسم والبلد والأشخاص على كل نموذج، ولكن هذا يمثل جانباً واحداً من الصورة، وهو جانب الإصدارات التي تسيطر عليها هذه الجماعات بالكامل، بينما القصة هي في محاولات وخطط التغلغل في الإعلام الرسمي أو الإعلام المحلي غير التابع مباشرةً لهذه الجماعات، وهي قصة تستحق أن تُروى.
بقيت العديد من الدول العربية، والملكيات منها بشكل خاص، تسعى لمنع اختراق هذه الجماعات للإعلام الرسمي، وإن سمحت لها ببعض الإصدارات الإعلامية مثل مجلة «المجتمع» في الكويت، أو «الإصلاح» في الإمارات، أو توزع بكثافة في السعودية مثل مجلة «البيان» أو «الأسرة» أو نحوهما، وكان قصارى ما تصل إليه هذه الجماعات أن تجد شخصية دينية غير محسوبة على هذه الجماعات وغير محسوبة على المؤسسة الدينية الرسمية، وتظفر لها ببرنامج ديني يبث يوم الجمعة أو خلال شهر رمضان، كما جرى في السعودية مع برامج علي الطنطاوي؛ مثل البرنامج الأسبوعي «نور وهداية» أو البرنامج الرمضاني «على مائدة الإفطار» وتنتهي الحكاية.
حدثت النقلة النوعية في إصرار هذه الجماعات على اختراقات حقيقية للإعلام، بعد نجاح إحدى التجارب الإعلامية منتصف التسعينات في تشكيل فارقٍ في المشهد الإعلامي العربي، فضخّت هذه الجماعات أموالاً طائلة لبناء قنواتٍ دينية واجتماعية وثقافية ونجحت في ذلك، وسعت بالتوازي مع هذا وبدعم بعض الدول إلى اختراق وزارات الإعلام الرسمية أو الصحف المحلية أو القنوات الفضائية واسعة الانتشار عبر دعم مقالاتٍ وكتابٍ وتقارير، أو رعاية برامج دينية – اجتماعية لبعض الرموز الصحوية بالشكل القديم أو بالشكل «المودرن» و«الشباب الجدد»، وعبر الحرص على الحضور المكثف في أي قناةٍ أو وسيلةٍ إعلاميةٍ، وحدثت بالتوازي مع هذا ثورة في الفتاوى والمواقف الشرعية تجاه هذه الوسائل الإعلامية من التحريم إلى الانخراط.
مثل أي حزبٍ سياسيٍ فإنَّ الاختراقات لا تتمّ عبر الحضور الإعلامي الظاهر فحسب، بل وفي اختراق قواعد المؤسسات الإعلامية والبدء بالدخول في هيكليتها الإدارية ووظائفها المختلفة، والترقي فيها عبر سنواتٍ حتى الوصول لمواقع أكثر تأثيراً في القرارات، بعيداً عن المناصب العليا المباشرة التي قد تسلط الضوء على عمليات الاختراق. حدث هذا في مصر وعديد من الدول العربية، ولكن مصر اكتشفت هذه الاختراقات بالطريق الصعبة عندما نجحت هذه الجماعات، وبدعم أميركي وغربي، في السيطرة على الحكم إبان ما كان يعرف بـ«الربيع العربي».
بعد مرحلة ثورة الاختراقات عبر مقالاتٍ في صحفٍ محليةٍ، أو برامج في قنواتٍ فضائية، وبدعم مادي حزبيٍ موجّهٍ جاءت مرحلة وصول عناصر حزبية من هذه الجماعة إلى مناصب مؤثرة في وزارات الإعلام بعد سنواتٍ من العمل، وجاءت مرحلة السعي لقيادة وسائل الإعلام المختلفة من صحفٍ وقنواتٍ ومواقع عبر أسماء غير مصنفةٍ من «الشباب الجدد»، وهذا أمرٌ حدث ويحدث مثله من كل الأحزاب السياسية من شرق الأرض إلى غربها.
كأي حزبٍ سياسيٍ، فجماعات الإسلام السياسي قادرةٌ على التأقلم التام مع أي إصلاحاتٍ اقتصادية كبرى أو تطويرات إدارية وهيكلية فاعلةٍ، بل هي مهيأةٌ للتعايش معها والانخراط فيها، ولكن المحكّ الحقيقي هو في الموقف من التوجهات لترسيخ الهوية وتطويرها أو السعي لإعادة قراءة التاريخ الوطني وتسليط الأسئلة الحقيقية على الروايات السائدة أو في سياسات محاربة «الأصولية» والتشدد الديني، حتى تجاه الجماعات المصنفة «إرهابية» في بعض الدول، حيث تظهر هنا مقولاتٌ مثل «نهاية الصحوة» أو «التطرف المضاد».
ثمة أسئلة كاشفة في هذا السياق، فعلى سبيل المثال ضعفت وتلاشت في بعض البلدان الأحزاب الشيوعية الصلبة، وتناولها بالنقد العميق أو حتى السطحي أمرٌ مشاعٌ ولا يثير ضغينة أحدٍ، وتنزّلاً وباعتبار «نهاية الصحوة» حقيقةً… فماذا يضير البعض من نقدها ونقد فكرها وتنظيماتها وجماعاتها ما دامت من الماضي وليس لها أي حضورٍ في الواقع؟ وبحجم الرفض لهذا النوع من النقد يمكن للمتابع والمراقب أن يكتشف حقيقة هذه النهاية المزعومة.
أخيراً، فهنا أسئلة كثيرةٌ منها أنَّ ثمة أسماء معروفة في العالم العربي لها مواقف فكرية صلبةٌ، ووطنيةٌ راسخةٌ، في مواجهة هذه الجماعات، ولكنَّها تختفي عن المشهد الثقافي والإعلامي حضوراً وتأثيراً وجوائز لصالح أسماء محايدةٍ أو أقل وضوحاً، فهل كل هذا عفو الخاطر؟
نقلاً عن “الشرق الأوسط” اللندنية