كريتر نت – متابعات
تخطط جمهورية التشيك لشق قناة تربط أنهار أوروبا الكبرى معاً، على طريقة قناة السويس المصرية، فماذا قد يحقق المشروع؟ وما مميزاته وعيوبه؟
منصة “أسباب” المختصة بالتحليل السياسي والاستراتيجي، نشرت تحليلاً يناقش المشروع التشيكي الطموح، من حيث أهدافه الاقتصادية والجيوسياسية كذلك.
التشيك وموقعها
تقع جمهورية التشيك في قلب أوروبا وتُعد نقطة التقاطع لاثنين من أهم أنهار القارة: أودر وإلبه، فيما يقع نهر الدانوب على بعد 200 كلم فقط نحو الجنوب، وهو ثاني أطول أنهار أوروبا القابلة للملاحة، ويسعى المسؤولون في براغ إلى حفر قناة جديدة تربط الأنهار الثلاثة في شبكة موحدة، وفي حال نجاح الخطة ستربط بين الأنهار الرئيسية في وسط أوروبا وتتيح الملاحة بسلاسة بين البحار الثلاثة:
– البحر الأسود.
– بحر البلطيق.
– بحر الشمال.
وبهذا ستتدفق التجارة الأوروبية من اتجاه لآخر دون عوائق. إلا أن المشروع اللافت للنظر لن يكون نقطة التقاء للمسطحات المائية فحسب، بل سيمثل نقطة التقاء للجغرافيا الاقتصادية والسياسية أيضاً، ما يعني أنه سيجلب سيلاً من الفرص ليربط المناظر الطبيعية المتنوعة، والثقافات النابضة بالحياة، والتاريخ الغني، البعض يصف المشروع بأنه جنون باهظ التكلفة سيضر بالاقتصاد التشيكي ويعرض البيئة المحيطة للخطر. وآخرون يرون أنه ضربٌ من العبقرية ستغير قواعد اللعبة، كما قناة السويس.
ربط الأنهار.. فكرة قديمة جديدة
في القرن الـ14حوّل الإمبراطور الروماني المقدس كارل الرابع مدينة براغ إلى واحدة من أرقى مدن أوروبا، ولكن قبلها بسنوات وضع كارل رؤيةً لبناء ممر مائي يعبر بالسفن من نهر أودر إلى الدانوب، كان مقترحاً يتمتع بإمكانات هائلة على صعيد التجارة، والأمان، وإسقاط القوى تحديداً، لكن كارل رحل دون تنفيذ المشروع، ولم يكن إتمامه ممكناً في ذلك الوقت نتيجة قيود التقنية، والموارد البشرية، والتمويل.
بينما شهدت القرون التالية إحياء الفكرة على يد الكثير من الملوك التالين، وكان كل منهم يأمل في إثبات نفسه بإتمام مشروع كارل لكنهم أخفقوا جميعاً، في مطلع القرن الـ19 تغيرت الأوضاع بشكل دراماتيكي.
– كانت أوروبا في خضم التحول الصناعي
– شهد توزيع القوى الكبرى العالمية فترة تحول
– تداعت إمبراطوريات الماضي
– عجزت آسيا عن مواكبة الركب
– تعرضت أفريقيا للاستعمار
– برزت أوروبا على قمة سلسلة الغذاء العالمية
ما بعد نجاح قناة السويس
في الوقت ذاته، أنهت فرنسا بناء قناة السويس في مصر لربط البحرين المتوسط والأحمر. وكانت القناة إنجازاً هندسياً مذهلاً سمح للسفن بتفادي الرحلة المطوّلة حول الطرف الجنوبي لقارة أفريقيا، وقد كان نجاح قناة السويس مصدر إلهام للمشروعات المشابهة القاصية والدانية بما في ذلك المحاولة الأولى لحفر قناة بنما.
وفي الوقت ذاته داخل أوروبا، أدت الضجة التي أثارتها القناة والهندسة المدنية إلى إحياء فكرة ربط أنهار وسط أوروبا، لكن فترة القرن الـ19 شهدت كذلك تغييرات سياسية غير متوقعة وقدراً مهولاً من الإنجازات التقنية.
ولهذا مرّت فكرة القناة بتحوّل تلو الآخر وتكيّفت في كل مرةٍ مع المشهد الجيوسياسي الجديد ومع التغييرات التقنية التي شهدها العصر، وقد طُرِحَت العديد من المقترحات التي تمتع كل منها بمقاربته الفريدة لربط الأنهار. واحتلت التشيك محور جميع تلك المقترحات بفضل موقعها المركزي داخل أوروبا.
– برزت التشيك كطرف محوري في سردية القناة
– المشروع الضخم منح التشيك موقعاً استراتيجياً عند نقطة التقاء الممرات المائية الكبرى
– جرت صياغة خطط مفصّلة لكنها لم تكن قابلةً للتنفيذ اقتصادياً وسياسياً
– ظل المشروع حبراً على ورق بدرجةٍ كبيرة
– طغت الاضطرابات السياسية، والصراعات، وعدم الاستقرار الاقتصادي على تطلعات التنمية
– لم يتجدد الاهتمام بمشروع القناة مرةً أخرى حتى القرن الـ21
– أسفر انهيار الستار الحديدي والاتحاد السوفييتي عن حقبة سلام طويلة في أوروبا
– صارت كافة المفاهيم الاقتصادية، والبيئية، والسياسية عرضةً لإعادة النظر
– كيف تخطِّط التشيك لربط أنهارها الرئيسية مع أوروبا؟
تفكك تشيكوسلوفاكيا
لكن عام 1993 شهد تفكك تشيكوسلوفاكيا سلمياً إلى دولتين منفصلتين: التشيك وسلوفاكيا، وفي الوقت ذاته، أدت معاهدة ماستريخت إلى تأسيس الاتحاد الأوروبي كاتحاد سياسي واقتصادي. وانضمت براغ إلى الاتحاد في عام 2004، لكن كان هناك خطب ما.
العوامل الجغرافية في التشيك: حيث أصبحت التشيك البلد الوحيد داخل الاتحاد الأوروبي الذي لا يتصل مباشرةً بمحيطات مفتوحة أو ممرات مائية قابلة للملاحة.
– تمتلك التشيك أنهاراً قابلةً للملاحة
– مدى قابليتها للملاحة وحجم السفن التي يمكنها استخدام الأنهار ليسا ملائمين
– تختلف تضاريس التشيك عن الجغرافية المسطحة التي تتمتع بها ألمانيا وبولندا
– تمتاز بالتلال الممتدة، والهضاب، وسلاسل الجبال
وعند وصول نهر إلبه أو أودر إلى التشيك، سنجد أن عوامل عمق الماء والبنية التحتية والتغييرات الموسمية في مستوى المياه تُقيِّد حركة الشحن التجاري، أي إن التشيك تحظى بوضعيةٍ أسوأ من بقية دول الاتحاد؛ حيث تشكل تكاليف الشحن الشطر الأكبر من أسعار السلع التي تستوردها براغ.
وتتراوح نسبة تكاليف الشحن بين 40% و60% تقريباً من سعر السلع المستوردة، ولا تعاني أي دولة أخرى في الاتحاد الأوروبي من نقطة ضعفٍ كهذه، ولا عجب أن الرئيس التشيكي ميلوش زيمان برز عام 2016 كأكبر مؤيدٍ لمشروع القناة، لكن مقترح زيمان كان أكثر طموحاً من الخطط السابقة إذ لم يتوقف عند السعي إلى ربط نهري الدانوب وأودر فحسب، بل كان يرغب في ربط إلبه بهما.
ويتطلب تحقيق ذلك حفر قناتين بدلاً من قناة واحدة، لتأخذ شكل حرف U بطول التشيك، وبعد سنوات من المفاوضات السياسية، وافقت الحكومة التشيكية على تدشين المرحلة الأولى من المشروع الضخم وبتكلفةٍ تبلغ 24.4 مليار يورو.
– تسعى النسخة المعاصرة من المشروع إلى حفر قنوات مُهندَسة جيولوجياً لربط الدانوب وأودر وإلبه، ويتدفق كلٌّ من تلك الأنهار صوب بحرٍ مختلف.
– ينبع الدانوب، ثاني أطول أنهار أوروبا، من منطقة الغابة السوداء في ألمانيا.
– يتدفق نحو الجنوب الشرقي مروراً بالنمسا، وسلوفاكيا، والمجر، وكرواتيا، وصربيا، وبلغاريا، ورومانيا، ومولدوفا، وأوكرانيا قبل أن يصب في البحر الأسود.
– يُعَدُّ الدانوب من الممرات المائية الحيوية بالنسبة لحركة الشحن والتجارة الدولية.
– ينبع نهر أودر من جمهورية التشيك ويتدفق عبر بولندا.
– يُشكل جزءاً من الحدود البولندية الألمانية خلال مساره، قبل أن يصب في بحر البلطيق.
– يُسهل نهر أودر حركة التجارة الإقليمية ويوفر الموارد المائية الأساسية للدول المجاورة.
– ينبع نهر إلبه من جمهورية التشيك ويعبر ألمانيا وصولاً إلى بحر الشمال في النهاية.
– يُعَدُّ نهر إلبه طريق ملاحةٍ رئيسياً يلعب دوراً كبيراً في الأنشطة الاقتصادية للمنطقة التي يتدفق عبرها.
وتمر الأنهار الثلاثة عبر تضاريس مختلفة تتقاطع فيها مع الأنظمة البيئية المتنوعة، والمدن المزدحمة، والمناطق الصناعية، وتُشكل تلك الأنهار شرايين الحياة للمناطق التي تمر بها، حيث تسهل حركة التجارة والنقل والزراعة، وتشكل مصدراً للمياه أيضاً.
لهذا فإن ربط هذه الأنهار لن يكون مجرد اندماج مادي بل سيعني ربط التاريخ، والتطلعات، والمستقبل الذي يميز منطقة أوروبا الوسطى، كما سيعني جمع كافة الصناعات الثقيلة في وسط أوروبا معاً وربطها بالأسواق العالمية، ولهذا سنجد جمهورية التشيك الحبيسة مهتمةً للغاية بمشروع قناة الدانوب- أودر-إلبه، لأن نجاح المشروع يعني ربط التشيك مباشرةً بثلاثة موانئ أوروبية رئيسية:
– ميناء هامبورغ الألماني على نهر إلبه.
– ميناء ستيشن البولندي على نهر أودر.
– ميناء برايلا الروماني على نهر الدانوب.
تأثيرات المشروع على التشيك
وتُعوِّل التشيك على هذا المشروع الضخم بشدة، إذ يقول المؤيدون إن حفر تلك القنوات:
– سيسمح لبراغ بالتخلص من تكاليف الشحن المهولة، أو خفضها بدرجةٍ كبيرة على الأقل.
– سيُعزز دور براغ في تقديم الخدمات اللوجستية الإقليمية والدولية، ناهيك عن زيادة نمو الناتج المحلي الإجمالي.
– أي إن قناة الدانوب-أودر-إلبه ستقلب موازين المشهد الاقتصادي في أوروبا الوسطى.
– تعزيز التجارة والتبادل وتسهيل حركة السلع والخدمات.
– تقليل وقت وتكلفة الشحن لكافة الدول المجاورة.
وربما تكون القناة محفزاً للتنويع الاقتصادي أيضاً، وذلك بتشجيع النمو في قطاعات مثل السياحة، والخدمات اللوجستية، والصناعة.
بولندا وسلوفاكيا مع التشيك لإتمام المشروع
لكن الهندسة الجيولوجية لمشروع بهذا الحجم، يضم الكثير من البلدان، لا يمكن أن تتحقق على يد التشيك بمفردها، إذ تُعَدُّ المسطحات المائية دوليةً بطبيعتها، لهذا اضطر مسؤولو براغ للتفاوض على المنصة الأوروبية الأوسع، والتوصل إلى إجماع داخل الاتحاد الأوروبي، وكانت المهمة أصعب من الهندسة المدنية اللازمة لإتمام حفر القنوات، ومع ذلك، انضمت بولندا وسلوفاكيا إلى التشيك بعد وقتٍ قصير من الإعلان عن المشروع الضخم.
المرحلة الأولى
واتفق المشرعون في الدول الثلاث على بدء المرحلة الأولى:
1- حفر ممر قابل للملاحة من الدانوب إلى مدينة أوسترافا التشيكية قرب حدود بولندا.
2- ستؤدي هذه المرحلة إلى ربط الدانوب ببحر البلطيق.
3- سيشهد التصميم حفر قناة بعرض 40 متراً.
4- تستطيع استيعاب سفن بغاطس يصل إلى 5 أمتار.
5- بناء ثمانية جسور في تشيكوسلوفاكيا.
6- سيجري إنشاء حوضي هويس للسفن المتحركة صوب المنبع أو المصب، لتمر عبر قسم بمستوى ماء مختلف.
7- تشييد ميناء جديد في مدينة سينوف التشيكية للإشراف على العمليات.
المراحل الأخرى لمشروع الممر المائي
خصصت التشيك 500 مليون يورو إجمالاً لتدشين المرحلة الأولى. بينما خصصت بولندا مليار يورو، وكان التفاوض جارياً على حصة سلوفاكيا، ولم يكن التمويل المخصص كافياً لإتمام المرحلة الأولى، لكن القائمين على المشروع رأوا أن الضغط لجمع أموال إضافية سيكون أسهل بعد بدء البناء.
وستتطلع التشيك وبولندا وسلوفاكيا بمجرد إتمام هذه المرحلة إلى بناء قناة مشابهة لربط ممر الدانوب-أودر بنهر إلبه، وإذا نجحت المرحلة الثانية، فربما تفكر التشيك في مرحلةٍ ثالثة، لتوسع بذلك ممراتها المائية عبر ربط نهر أودر بنهر فيستولا على حدود التشيك مع بولندا، وفي المرحلة الثالثة من المشروع، ستصبح التشيك متصلةً بميناء غدانسك الاستراتيجي في بولندا.
معوقات بناء المشروع
في جميع الأحوال، كان من المقرر بدء حفر المرحلة الأولى، لكن جائحة كوفيد حلّت وكما حدث في كافة أنحاء العالم، أسفرت الجائحة والتضخم المتفشي بعدها عن خلق كافة أشكال التعقيدات الجديدة وغير المتوقعة، كانت التكلفة الأوّلية المقدرة بـ24 مليار يورو محسوبةً قبل الجائحة.
ولم تُجر أي دراسات منذ ذلك الحين، لكن التكلفة الجديدة للمشروع العملاق ستكون أعلى بكثير على الأرجح، ولم تلتزم براغ بتوفير المبلغ الإجمالي المقدر بـ24 مليار يورو، بل كانت تأمل في تمويل المشروع العملاق عبر الاستثمارات العامة والخاصة، والمنح الدولية، وربما بتمويل من الاتحاد الأوروبي.
لكن هذه الطموحات قد تكون مجرد أحلام بعيدة المنال. إذ يقول المعارضون للمشروع إن القنوات ليست مجدية ويستشهدون بألمانيا كأساس للمشكلة، إذ أنهت ألمانيا حفر قناتها المهندسة جيولوجياً لربط نهري الراين وماين بالدانوب في الثمانينيات، وحقق المشروع النجاح في البداية، لكن اقتصاد ألمانيا تغيّر بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، فتحوّل النشاط الصناعي في منطقة بافاريا الألمانية نحو الشرق.
وبدأت ألمانيا تتخصص في الخدمات والتصنيع بقيمة مضافة أعلى، ونتيجةً لذلك، انخفضت حركة مرور قناة الراين-ماين-الدانوب من 18 مليون طن إلى مليوني طن فقط سنوياً، ويُمكن القول إن التشيك تمر بفترة تحول اقتصادي وهو نفس التحول الذي عاشته ألمانيا في التسعينيات عندما استعانت بالشرق في الأنشطة الصناعية الأساسية.
ومن المرجح أن تفعل التشيك الأمر نفسه خلال العقد المقبل، لكن محاكاة طريقة التحديث الاقتصادي والصناعي الألمانية لا تحتاج إلى قناة اصطناعية، إذ انخفضت حركة المرور عبر القناة الاصطناعية الألمانية منذ التسعينيات. ومن المستبعد أن نشهد تحوّلاً كبيراً من الشاحنات إلى السفن.
لكن ارتفاع التكاليف ليس العقبة الوحيدة في طريق طموحات الممر المائي التشيكي، حيث تحظى المخاوف البيئية بالقدر نفسه من الأهمية الجوهرية، لأن الأثر البيئي لمشروع هندسة جيولوجية بهذا الحجم سيؤثر دون شك على الحياة البرية والنباتية والموائل الطبيعية المحلية، لهذا بدأ أنصار البيئة مع المجتمعات المحلية في تسليط الضوء على التهديدات المحتملة للتنوع والتوازن البيئي الأوسع.
وتقول منظمة السلام الأخضر إن المشروع يهدد بإلحاق ضرر دائم بالبيئة. كما تجادل بأن بناء قناة خرسانية سيجعل حالات الجفاف السنوية أكثر شيوعاً وحدة، علاوةً على أن أحواض الهويس قد تسرّع موجات الفيضان، ما قد يحفر ويعمِّق مجاري الأنهار القريبة، وقد يزيد هذا التغيير الجيولوجي من خطر الفيضانات، في عصر يشهد زيادة معدلات هطول الأمطار.
وفي حال أضرّت تلك القنوات بالأنظمة البيئية الإقليمية، فسيمثل ذلك انتهاكاً لتوجيهات الاتحاد الأوروبي الخاصة بالبيئة وحفظ الطبيعة، وستتعرض الدولة المعنية لغرامات بموجب تشريعات الاتحاد الأوروبي، وتعد المخاطر البيئية مرتفعة للغاية هنا؛ إذ أعلنت السلطات الألمانية أنها سترفض أي بناء يجعل الحدود التشيكية الألمانية صالحة للملاحة ونقل البضائع.