عبدالجبار الرفاعي
كاتب ومفكر عراقي
تقترن التربية في التديّن الشكلي بالخوف؛ لذلك يشدّد هذا التديّن على قيمة العنف في الحياة الدنيا، كما يستحضر على الدوام صورَ العذاب الأخروي، والمشاهدَ التي تثير الهلعَ في الحياة الآخرة. ويسود اعتقادٌ لدى أكثر المتدينين بهذا النوع من التديّن أنّ الأخلاقَ لا تولد إلّا من الخوف، ولا يمكن بناءُ الفرد والمجتمع من دون خوف.
الخوفُ ليس مصدراً للأخلاق، فربما تجد من يخاف حدَّ الهلع لكنه ليس أخلاقياً، وربما تجد من كان يبدو أخلاقياً قبل امتلاكه السلطة والثروة، غير أنّه لحظةَ يمتلكهما تنكشف شخصيتُه اللاأخلاقية. الخوفُ لا يصنع أخلاقاً، ولا يخلق إنساناً أخلاقياً، الخوفُ يغطي لاأخلاقيةَ بعض الناس، لذلك يُفتضح الوجهُ الحقيقي لهؤلاء عندما يتخلصون من الخوف، كما نرى بعضَ الناس ممن يبدو أخلاقياً في الظاهر حين يكون فقيراً، غير أنّه لو استغنى ينزعُ الغطاءَ الأخلاقي الزائف، وبعض الناس ممن يبدو أخلاقياً إن كان ضعيفاً لا يمتلك سلطةً أو نفوذاً، لكنه لو امتلك أيَّ شكل للسلطة تنكشف شخصيتُه اللاأخلاقية فيستبدّ ويطغى.
يستفيق الضميرُ الأخلاقي بالتربيةِ الصالحة والبناءِ السليم للمجتمع. بناءُ الأخلاق على الخوف لا يؤسّس أخلاقاً أصيلة، ولا يبني مجتمعاً أخلاقياً، وكثيراً ما ينتهي إلى ازدواجيةٍ ونفاقٍ سلوكي.
للأخلاقِ قيمة بذاتها، ذلك أنّ الحَسَنَ حَسَنٌ بذاته، والقبيحَ قبيحٌ بذاته. ويستمدّ الفعلُ الأخلاقي قيمتَه من كونه فعلاً أخلاقياً لا غير، وذلك ما يجعل أثرَه يظهر مباشرةً على حياةِ وسلوكِ فاعله قبل غيره. جوهرُ الفعل الأخلاقي أنّه واجبٌ لذاته بغضّ النظر عن نتائجه، فلو حاول شخصٌ إنقاذَ غريقٍ فإنه قام بفعل أخلاقي، سواء أفلح بذلك أم لم يفلح. للوجودِ ذاكرةٌ أخلاقيةٌ لا يُمحى فيها أثرُ أيّ فعل أخلاقي، لذلك يُعلِن الفعلُ الأخلاقي باستمرار عن نفسه ويتحدّث عن فاعله، ويفرض احترامَه على كلّ إنسان.
أساسُ الأخلاق أحكامُ العقل العملي. وهذا العقلُ هو الذي يحكم بقبحِ الكذب وحسنِ الصدق، وقبحِ الخيانة وحسنِ الأمانة، وقبحِ الظلم وحسنِ العدل. وهو المرجعيةُ في كلّ ما هو حسن أو قبيح، وفي ما نجده من قيم أخلاقية كلية في البنية العميقة للمجتمعات البشرية التي لم تتعرّف على الوحي الإلهي، فلو لم تكن هناك نواميسُ كونيةٌ للقيم والأخلاق، وكان كلُّ حُسن يحيل إلى ما يُحسّنه الوحي، وكلُّ قُبح يُحيل إلى ما يقبحّه الوحي، فسيفضي ذلك إلى تفريغِ الأخلاق من مضمونِها، وغيابِ أيِّ فعل أو سلوكٍ أخلاقي في المجتمعات البشرية التي لم تعرف الوحي.
وعلى الرغم من أنّ تلك المجتمعات لم تعرف الأديانَ الإبراهيمية، ولم تصل اليها تشريعاتُ الوحي، فإنّ تاريخَها يبرهن على أنّ هناك حضوراً للكلمات والأفعال الأخلاقية في حياة وسلوك الفرد والجماعة، وأنّها تدرك أنّ للكلمات والأفعال الأخلاقية الأصيلة بصمةً في ضمير العالم.
نقلاً عن حفريات