أحمد الديباوي
كاتب مصري
بعد تنفيذ حكم الإعدام شنقاً بحق تسعة من عناصر جماعة الإخوان المحظورة، ممّن خطّطوا وشاركوا ونفّذوا جريمة اغتيال النائب العام المصري، المستشار هشام بركات، في 29 حزيران (يونيو) 2015، ظهر من جديد مصطلح “المظلومية”، إذ استطاعت أبواق الجماعة، سواء من خلال قنواتها الإعلامية أوعبر منصات التواصُل الاجتماعي، استغلال تنفيذ ذلك الحكم لمحاولة كسب أكبر قدر من التعاطف معها، وتشويه السلطة السياسية في مصر، وتعبئة الرأي العام وحشده، حتى بدا الأمر كما لو أنّ هذا الرأي العام مسؤول هو الآخر عن تلك المظلومية!
سلاح “المظلومية”
تاريخياً؛ عُرفت “المظلومية” منذ القدم، كوسيلة للضغط النفسي على الآخرين، وإشراكهم في الشعور باضطهاد الآخرين، فقد استخدمها عبيد أثينا القديمة وفلاحو الرومان، كما كان لها حضور قوي في الأوساط الشيعية، منذ النشأة التاريخية لفرقهم المختلفة، فروّج لها الشيعة، جميعهم، وعُرِفت لديهم كذلك بالكربلائيات، نسبة إلى أرض كربلاء، التي شهدت، العام 61هـ، استشهاد الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهما، على أيدي أتباع يزيد بن معاوية بن أبي سفيان.
ثم ما انفكّت جماعة الإخوان، في العصر الحديث، تستحضر ذلك المصطلح في أعقاب أيّة مواجهة لهم مع الدولة المصرية، فيأخذون في التباكي والنواح وإظهار مظلومية خادعة زائفة للترويج العاطفي معهم، وتعبئة الرأي العام باستغلال المشاعر، ونقاط الضعف الموجودة في البلاد، سياسياً واقتصادياً وأخلاقياً، لتكريس حالة من الشعور بالذنب والاضطهاد؛ لذلك فإنّ “المظلومية” عقدة شبيهة بعقدة الشعور بالاضطهاد، المعروفة في الطب النفسي باسم “البارانويا”؛ وهي حالة شعور مرضي بحت لا وجود لها في الحقيقة، لكنّ المُصاب بها يشعر بالاضطهاد على سبيل الوهم، حتى يتضخّم هذا الشعور بداخله تدريجياً، فيحسّ بأنه مضطهَد لمجرد الاضطهاد!
مرصد الفتاوى التكفيرية يكشف زيف الإخوان
ولم يكن مفاجِئاً أن يأتيَ بيان مرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة التابع لدار الإفتاء المصرية قوياً في عباراته، تعقيباً على حالة الصراخ الإخوانية التي انتابت أعضاء الجماعة في أعقاب إعدام عناصرهم الذين اعترفوا بالصوت والصورة بجريمتهم، فقد أكّد بيان المرصد أنّ الجماعة “دأبت منذ نشأتها على استغلال عناصرها من الشباب وتجييشهم للدفع بهم نحو الهاوية من أجل هدف الجماعة الإرهابية في إبراز “المظلومية التاريخية”، ذلك الشعار الذي راح ضحيته مئات من الشباب، الذين خدعتهم الجماعة بشعاراتها، وانضووا تحت فرمانات قياداتها، متوهمين أنّهم جنود جيش الخلافة، وحماة ثغور الإسلام، ولَم يعلموا أنّهم في حقيقة الأمر وقود يُرمى بهم في لهيب المعارك لتظلّ الجماعة باقية ومستمرة ما بقي مداد الوقود مستمراً ومندفعاً”.
بيان المرصد، في شقّه الخاص باستغلال تلك الجماعة عناصرها من الشباب، والتغرير بهم بالشعارات الخادعة، يذكّر بما حدث، العام 1954، إبان محاكمة محمود عبد اللطيف، أحد أعضاء التنظيم السري بجماعة الإخوان، وأحد حُراس مرشد الجماعة الثاني، حسن الهضيبي، الذي كان مكلَّفاً باغتيال الرئيس جمال عبد الناصر، وذلك بإطلاق الرصاص عليه أثناء خطابه الحاشد بميدان المنشية بالإسكندرية، في ذكرى ثورة 23 يوليو، فقد فوجئ هذا المتطرف بأنّ “مثله العليا تتهاوى أمام عينيه!”، يقول الكاتب الراحل محمد التابعي، تعليقاً على تلك الجريمة: “كانت صدمة كبرى لهذا الفتى الأمّي، أو نصف الأمي، أن يشهد بعينيه في ساحة محكمة الشعب مصرع مثله العليا، سمع بأذنيه أنّ فعلته التي أقدم عليها جريمة وخيانة في حقّ الوطن، وأنّها جريمة بشعة نكراء لا يقرّها دين الإسلام، ولا يرضى عنها المسلمون، سمعها من الذين حرّضوه وأعطوه المسدس، وأفهموه أنّ هذه هي أوامر قيادة الإخوان، التي طاعتها من طاعة الله ورسوله!”.
لقد خدعه رؤساؤه في الجماعة، آنذاك، خصوصاً هنداوي دوير، رئيس شعبة إمبابة، وأفهموه أن جمال عبد الناصر باع الوطن بتوقيعه على اتفاقية الجلاء، ثم في المحكمة فإذا هو يسمع، مذهولاً، من أولئك الرؤساء، أنّ اتفاقية الجلاء لم تكن سبب اغتيال عبد الناصر، وأنّ عبد الناصر لم يخُن بلاده، ولم يفرّط في أراضيها، وأنّهم قرروا اغتياله، سواء وقّعها أم لم يوقّعها، ليقف محمود عبد اللطيف مشدوهاً متعجباً من كلامهم، معلناً ندمه على ما حدث، فهو لم يكن سوى أداة في يد قادته، يستخدمونها كيفما شاؤوا، بعد أن أقسم بين أيديهم على السمع والطاعة، لأنّ طاعتهم من طاعة الله تعالى!
وقود معارك عبثية
تذكرتُ ذلك، وأنا أقرأ وأتابع خطاب جماعة الإخوان المحشود بعبارات المظلومية والتباكي على قتلاهم، الذين غرّروا بهم وبغيرهم، منذ نشأتهم العام 1928، وهي عادة إخوانية مؤسِّسة؛ لأنّ أمثال أولئك الشباب هم وقود معاركها العبثية لاكتساب أرضية سياسية باسم المقدَّس، عبر احتكار تفسير النصوص الدينية، ومزجها بالشعارات الرنّانة، والخطابات الشعبوية التي تستشهد بالقصص التراثية المفبركة، وفي معظمها لا تخلو من “مظلومية” هي الأخرى، الأمر الذي يوجب علينا جميعاً مواجهة تلك الجماعة، كونها أهم جماعات الإسلام السياسي في العالم العربي، وأحد الروافد المهمة التي تلهم وتغذّي الجماعات والتنظيمات المتشددة، ابتداء بتنظيم الجهاد، ومروراً بالقاعدة، وانتهاءً بتنظيم داعش.
ولا يجب إغفال المواجهة الإعلامية معهم، ومع المنصات والأبواق التي تغذيها بعض الدول، وتفنيد خطاباتهم ومظلوميتهم بالتحليل والنقد لكشف الزيف والكذب اللذين يلتحفون بهما لتبرير أفعالهم، ثم التباكي على قتلاهم، ونعتهم بالشهداء، رغم أنّهم يرفعون السلاح في وجه الدولة، ويستهدفون أمنها واستقرارها، لا لشيء سوى للوصول إلى السلطة.
نقلاً عن حفريات