ياسر عبدالعزيز
كان العقد الماضى عقدًا مثيرًا بالنسبة إلى الإسلام السياسى على صعد الفكر والنفوذ والحركة السياسية؛ ففى تلك الأثناء اندلعت الانتفاضات فى عدد من البلدان العربية، وازدهر الفكر الدينى، واستطاعت الحركات الإسلامية أن تتصدر المشهد السياسى، أو أن تنافس على السلطة، وأن تصل إلى مقاعدها فى بعض الأحيان.
كانت أحلام الإسلاميين فى ذلك الوقت تحلق بعيدًا، وتعد الأنصار بخلاص وسطوع وتمكين؛ ولِمَ لا؟ فقد ساعدت الأنظمة الوطنية القائمة آنذاك فى دول مثل سوريا، وليبيا، وتونس، ومصر، واليمن، وغيرها، على ذلك، بأن غيبت ركيزتين جوهريتين لضمان رشادة الحكم واستدامته: العدالة والكفاءة.
أخفقت تلك الأنظمة معظمها، بنسب متباينة، فى مقابلة توقعات الجمهور، وأمعنت فى ممارسات وُصمت بالفساد أو الخطل، وبموازاة ذلك، كان الحكم المستند إلى تأويل دينى مُحدد يُرسخ دعائمه فى إيران رغم التحديات، والنزعة الدينية تتقدم فى تركيا على وقع آمال استعادة «حلم الخلافة»، والتأثير اليهودى يتعمق فى مؤسسات الحكم وخطابها فى إسرائيل.
ولم تكن الدول الفاعلة فى الإقليم قد انتبهت لخطورة الفكر والخطاب الدينيين السائدين، وظل هذا الفكر حافلًا بمعانى «الصحوة» المُفترضة، وغارقًا فى دعاوى المظلومية، كما استفاد من خواء المجالين السياسى والعام من أطروحات «وطنية» مُتماسكة، يمكن أن تتعامل مع تطلعات الجمهور، أو تُسكّن هواجسه، أو تطرح بدائل.
فى هذا الخواء السياسى الناجم عن غلق المجال العام أو التحكم المُفرط فى دينامياته، والتردى الاجتماعى المُصاحب لآليات التفاوت الطبقى الصارخة، وتراجع التعليم، ورداءة المُنتجات الفكرية والفنية السائدة، وجد الإسلام السياسى مجالًا خصبًا للفعل والحركة والتأثير.
وبرزت بين القوى الإسلامية الفاعلة ثلاث أفكار رئيسية؛ أولاها فكرة «أستاذية العالم» التى ارتكز عليها «الإخوان»، وثانيتها فكرة «العودة إلى الأصول»، التى حُملت على أكتاف السلفيين، وثالثتها فكرة راديكالية، استخدمت السلاح، وتلك كانت طريقة «داعش».
ولحسن حظ أصحاب الأفكار الثلاث، فإن النظام الدولى المُختل القائم آنذاك، والفاعلين الكبار فيه، كانوا منقسمين بين فصيل يرى فى هذا الصعود الإسلامى عنوانًا لتغيير مطلوب، أو «فوضى خلاقة» تعيد ترتيب الإقليم على نحو أكثر مطاوعة لأهدافه الكبرى، وبين فصيل كانت حركة الأحداث أسرع من قدرته على بناء موقف واضح منها؛ وفى الحالتين وفرت البيئة الدولية المواكبة لهذا الصعود أسبابًا جديدة لازدهاره.
لا يمكن القطع بأن فئات الإسلام السياسى الثلاث التى تسيدت المشهد فى العقد الماضى كانت تعمل ضمن تحالف واحد، بل إن خلافات واضحة ظهرت فى مقارباتها وسياساتها العملية، لكن أمكن رصد نمط من التفاهمات المرحلية بين بعضها، وفى بعض تلك المراحل ظهرت عوامل تفيد بوجود تنسيق سياسى وحركى بينها.
لم يكن «مسار 30 يونيو» 2013 مسارًا سياسيًا يخص مصر وحدها؛ ولكنه كان أيضًا تعبيرًا عن انتباه عدد من الدول العربية الرئيسية لخطورة التطورات الجارية آنذاك، وتجسيدًا لحالة من التنسيق الفعال، وحشد الجهود والموارد لمواجهة تلك التطورات، بعدما ظهرت الإشارات إلى أن هذه «الصحوة» المُفترضة يمكن أن تقوض النظام الإقليمى، وأن تغير ملامح دوله لعقود.
امتدت مفاعيل هذا المسار لعقد كامل لاحقًا، وفى هذه المفاعيل ظهرت سياسات للتعامل مع الفكر والحركة المستندين إلى التأويل الدينى المُغرض، وبعض هذه المفاعيل تحلى بدرجة واضحة من التماسك والاستدامة والفاعلية، وكانت ممارسات «داعش» التى اتسمت بأعلى درجة ممكنة من الشطط والشذوذ والتوحش كفيلة بأن تضع قيودًا على سلوك بعض الفاعلين الدوليين والإقليميين، الذين أحبوا هذا التغيير الفوضوى، أو راهنوا عليه لتحقيق مصالح استراتيجية.
من جانب آخر، اكتشفت قطاعات واسعة فى الجمهور العربى خواء هذا العرض المتأسلم، الذى لم يُظهر كفاءة أو قدرة على الإدارة، ولم يُظهر إخلاصًا لفكرة «المفاصلة» المزعومة، أو يُغير أسلوب التعامل مع الغرب وإسرائيل، كما انطوى على القدر المعتاد إقليميًا من الخطل والفساد، فضلًا عن شره بادٍ للسلطة، وتهافت عليها.
والآن ترد الأخبار بكثافة عن التضييق على الوجود الفاعل لرموز تيار الإسلام السياسى، وأفكاره، وأصواته، فى بلدان عديدة فتحت أبوابها له بشغف، بموازاة التسييج الواعى لفكره المعطوب، وطرح الأفكار والخطابات الجديدة، التى تظهر عواره وانقطاعه عن الصحة والنجاعة.
تحمل تلك السياسات أخبارًا جيدة بكل تأكيد، لكن مع ذلك فإن المخاطر لا تزال قائمة؛ والحل يكمن ببساطة فى معالجة أسباب ازدهار هذا الفكر المتأسلم، وآليات حركته بين المجتمعات.
أما أفضل طريق لإدراك هذا الهدف، فلن يكون فقط عبر التضييق الأمنى، والملاحقات السياسية، والتدابير الزجرية لعناصر الشطط البارزة فيه، وإنما عبر فتح المجال العام، وتسيير ظهور البدائل السياسية العاقلة، وترسيخ ركيزتى الحكم الرشيد: العدالة والكفاءة.
نقلا عن “المصري اليوم”