كتب .. إسراء سيد
في أبريل/نيسان 2024، توقف موقع “أمازون” للتجارة الإلكترونية عن بيع رواية “الشوك والقرنفل” التي كتبها رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في قطاع غزة يحيى السنوار قبل 20 عامًا، بعد شكوى قدمتها منظمة “بتزالمو” (NGO) الإسرائيلية إلى عملاق التجارة الإلكترونية، ادَّعت فيها أن الرواية زرعت بذور عملية “طوفان الأقصى”، وتتعمق في هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
ورغم أن الكتاب موجود على موقع “أمازون” منذ ديسمبر/كانون الأول 2023، وصفت منظمة “محامون بريطانيون من أجل إسرائيل” (UKLFI) محتوى كتاب السنوار بـ”المسيئ والمهين”، وادعت أنه “ينتهك العديد من جوانب سياسات أمازون الخاصة بالمواد الهجومية والمثيرة للجدل وإرشادات محتوى الكتب، وأنه من غير القانوني إجراء أي تعاملات مالية مع السنوار أو توفير أموال أو موارد اقتصادية له”.
ضمن هذه الحملة أيضًا التي يقودها اللوبي الإسرائيلي في المملكة المتحدة، حثَّ مجلس نواب اليهود البريطانيين على إزالة الكتاب، مدعيًا استخدامه “للتحريض على العنف والدعاية وجمع الأموال لصالح منظمة محظورة، وتأجيج المشاعر المعادية للسامية”، في حين يواصل “أمازون” السماح ببيع الأدوات المعادية للسامية حقًا، وما زالت عشرات الكتب والأفلام الدعائية النازية متاحة للشراء والبث عبر الإنترنت.
ورغم استجابة “أمازون” لضغوط اللوبي اليهودي، وحذف هذه الرواية الأدبية التي تروي في 30 فصلًا سيرة النضال الفلسطيني منذ عام 1967 وحتى انتفاضة الأقصى عام 2000، فإنها تبقى واحدة من مؤلفات وترجمات عدة كتبها السنوار داخل أحد السجون الإسرائيلية بينما كان هو ورفاقه يعانون، واتسمت بالأسلوب السياسي والتحليلي، وعكس من خلالها رؤيته وتجاربه في الشؤون السياسية والأمنية والعسكرية، فماذا يمكن أن تخبرنا هذه الكتب عن عقلية السنوار؟
من هو يحيى السنوار؟
في 7 أكتوبر/تشرين الأول عام 1962، وُلد يحيى السنوار في مخيم خان يونس للاجئين في الطرف الجنوبي من قطاع غزة لعائلة أصولها من قرية المجدل، التي تقع الآن داخل حدود دولة الاحتلال، والمعروفة باسم “أشكلون” (عسقلان)، وتلقى تعليمه في مدرسة خان يونس الثانوية للبنين، وتخرج في الجامعة الإسلامية بغزة بدرجة بكالوريوس في اللغة العربية، وتربى على يد أبرز القادة المؤسسين لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) الشيخ أحمد ياسين، وحصل على ثقته حتى بات يُوصف اليوم بأنه العدو الأول للاحتلال والشخصية السياسية والعسكرية العليا في غزة.
تأثر السنوار بتنشئته القاسية في مخيم للاجئين يروي قصة قتل وتهجير عائلة مع مئات آلاف الفلسطينيين في أعقاب النكبة التي فرض الاحتلال خلالها سيطرته على ثلثي فلسطين، وهو ما ساعد في تشكيل وعيه السياسي والعسكري، لا سيما بعد أن تفاقمت مصاعب المخيم عام 1967، عندما أكملت “إسرائيل” احتلالها لبقية فلسطين، واستولت على الضفة الغربية وقطاع غزة، وكان مستوى المعيشة أكثر كآبة في المخيم مع تدهور الظروف الاقتصادية، وتبع ذلك حظر التجول والهجمات العسكرية المكثفة.
من هذا المخيم الفقير، خرج السنوار الرجل البالغ من العمر 62 عامًا، والمعروف على نطاق واسع باسم “أبو إبراهيم”، والذي ستعرفه “إسرائيل” للمرة الأولى بأحد أشهر ألقابه: “جزار خان يونس”، وهو لقب اكتسبه في بداية انضمامه لصفوف حركة حماس، بعدما ساهم وبشكل رئيسي في تأسيس الجناح العسكري للحركة الذي أصبح يُعرف لاحقًا باسم “كتائب عز الدين القسام”، وأسس في شبابه – بتكليف من الشيخ أحمد ياسين – فرعًا أمنيًا لمكافحة التجسس أطلق عليه منظمة الجهاد والدعوة، ويُعرف باسم “مجد”، وهو أول جهاز للأمن الداخلي والمخابرات يتبع كتائب القسام في عام 1985.
قضى السنوار ثلث عمره تقريبًا داخل سجون الاحتلال، واُعتقل عدة مرات. في المرة الأولى عندما كان طالبًا جامعيًا يبلغ من العمر 19 عامًا وعضوًا مؤسسًا في الحركة الطلابية التابعة لحماس عام 1982، وحُكم عليه بالسجن لأربعة أشهر، وفي وقت لاحق من ذلك العام، ألقي القبض عليه مرة أخرى وحُكم عليه بالسجن 6 أشهر، وفي المرة الثالثة، قضى 8 أشهر داخل سجون الاحتلال بعد اعتقاله عام 1985 بتهم تتعلق بالأجهزة الأمنية للحركة الفلسطينية.
وبعد اندلاع الانتفاضة الأولى التي بدأت في غزة عام 1987، اعتقلته السلطات العسكرية الإسرائيلية، التي كانت تعمل في ذلك الوقت داخل غزة، وحكمت عليه بالسجن 4 مؤبدات (مدتها 430 عامًا)، بتهمة تأسيس جهاز أمني لتتبع المخابرات وأجهزة الأمن الإسرائيلية، إلى جانب المشاركة في تأسيس جهاز عسكري باسم “المجاهدون الفلسطينيون” المعروف اليوم باسم “كتائب عز الدين القسام”.
23 عامًا في سجون الاحتلال، 4 منها في الحبس الانفرادي، درس خلالها السنوار من خلف القضبان نفسية الاحتلال عن كثب، وحوَّل نقاط قوته إلى ثغرات سهلة يمكن استغلالها، وراقب سلوك عدوه، وحفظ تاريخه واستراتيجيه، وطوّر مهاراته الأمنية والاستخباراتية، خاصة في تقنيات الاستجواب، حتى بات أكثر فلسطيني يعرف الكيان الصهيوني والسياسة والإعلام الإسرائيلي.
بهذا المستوى وأكثر كان نشاط السنوار في مشواره الطويل داخل سجون الاحتلال، حيث بنى نفوذه هناك، وكان عضوًا مؤثرًا في الحركة حتى داخل السجن، وأصبح الزعيم بلا منازع لأسرى حماس في وقت قريب من الانتفاضة الثانية، خاصةً أنه قاد الإضرابات في محاولة لتحسين ظروف السجناء، وحتى خلال الأوقات التي لم يكن فيها زعيمًا، كان للسنوار تأثير كبير على الأشخاص الذين كانوا قادة، وكانت له كلمة مسموعة.
أمضى السنوار سنوات كعضو في حماس داخل السجن أكثر مما أمضى خارجه، ومنذ أن كان في الأسر، قاد ولسنوات طويلة الحركة داخل السجون الإسرائيلية، وأمسك بعدة ملفات، وقاد مفاوضات بين “إسرائيل” وقيادات حماس في الخارج بشأن إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي الأسير الذي تحتجزه حماس جلعاد شاليط، وقدَّم الخطط والمقترحات من داخل سجنه لقيادة حماس، وأُجريت عدة مقابلات معه داخل زنزانته، لدرجة أن الاحتلال سعى للحد من نفوذه داخل الحركة بوضعه في الحبس الانفرادي.
وكان للسنوار تأثير في الضغط من أجل حرية الفلسطينيين الذين سُجنوا بتهمة قتل إسرائيليين، فقد أراد إطلاق سراح أولئك الذين شاركوا في التفجيرات خلال الانتفاضة الثانية التي قتلت أعدادًا كبيرة من الإسرائيليين، مثل عملية تفجير فندق بارك التي أدت في البداية إلى مقتل 19 شخصًا.
ولطالما ترددت “إسرائيل” في الإفراج عن السنوار، فقد كانت تدرك أن شخصًا بحجمه لن يكون كأي أسير محرر آخر، وأن قضاءه أكثر من 20 عامًا في سجونها لن يغير شيئًا من قناعات الرجل الذي حمل السلاح في وجهها ووجه عملائها منذ منتصف الثمانينيات.
ورغم رفض “إسرائيل” حتى اللحظة الأخيرة إطلاق سراح أسرى كبار مثل عبد الله البرغوثي وحسن صلاح، فإن السنوار كان على موعد مع الحرية في أكتوبر/تشرين الأول عام 2011، في صفقة “وفاء الأحرار” التي أدارها بنفسه من داخل السجن، ونجحت المقاومة بموجبها في الإفراج عن 1027 أسيرًا فلسطينيًا مقابل شاليط، ومن بين المفرج عنهم – والرجل الذي أعد القائمة – السنوار، الذي كان في استقباله عدد كبير من قادة حماس السياسيين والعسكريين.
وبعدما أصبح السنوار جزءًا من هذه الصفقة المعقدة، لم يكن ممكنًا أن تعلم “إسرائيل” أنه سيصبح زعيم حماس والمكرس لتدميرها، والمتهم بتدبير السابع من أكتوبر بعد 12 عامًا، لذلك تعض اليوم أصابعها ندمًا، فلو كانت تعلم أن أحد أسراها سيصبح سجَّانها لما ترددت لحظة في تصفيته، ولو كانت تعلم أن صفقة “وفاء الأحرار” ستحرر السنوار من خلف قضبان سجن بئر السبع ليكون السبع الذي يغرقها في بئر الهزيمة لما وافقت عليها.
مؤلفات في سجون الاحتلال
كانت السنوات التي أمضاها السنوار في الزنازين الإسرائيلية حاسمة في تشكيل وعيه الفكري وعقيدته السياسية، وصقلت لغته العبرية إلى مستوى الناطقين بها، فهو يعلم كيف يصغى لوسائل الإعلام الإسرائيلية، ويحلل النقاش العام داخل “إسرائيل”، ويعرف في مقابلاته مع وسائل الإعلام كيف يقتبس أقوالًا لسياسيين إسرائيليين.
استثمر السنوار جزءًا كبيرًا من حياته داخل السجن في متابعة المجتمع الإسرائيلي، وانغمس في فهم عقلية الاحتلال، وتعمق في دراسة السياسة الإسرائيلية، حيث كان يشاهد الأخبار المحلية، ويقرأ بانتظام الصحف، بالإضافة إلى السير الذاتية لشخصيات إسرائيلية رئيسية.
وقبل الإفراج عنه، أمضى السنوار معظم وقته في التعلم والقراءة والتأليف، فقد ألف وترجم عددًا من الكتب في المجالات السياسية والأمنية والأدبية، وله العديد من المنشورات والترجمات التي تشرح رؤيته وفهمه للعقلية الإسرائيلية، وتشمل أعماله البارزة:
كتاب “الشاباك بين الأشلاء”
كتاب ألَّفه الرئيس السابق لجهاز الشاباك الإسرائيلي كرمي غيلون، وترجمه السنوار، ويتعمق في دور جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي المعروف بـ”الشاباك” بكل تفاصيله، الذي أسسه ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لـ”إسرائيل”.
يتمحور الكتاب حول الانقسام في المجتمع الإسرائيلي، ويتناول الكتاب تفاصيل عمل الشاباك، وهو تابع لسلطة وأوامر رئيس الوزراء الإسرائيلي، ومهمته الرسمية حماية الدولة من المؤامرات والتآمر الداخلي وحماية أمنها الداخلي.
كتاب “الأحزاب الإسرائيلية”
كتاب صدر عام 1992، وترجمه السنوار إلى اللغة العربية، يناقش ويبحث تاريخ الأحزاب السياسية في “إسرائيل”، ويعرِّف ببرامجها وتوجهاتها خلال تلك الفترة.
وكان اهتمام السنوار بهذه النوعية من الكتب نابعًا من إيمانه بأهمية معرفة الداخل الإسرائيلي ودور الأحزاب السياسية في تشكيل القرارات وصياغتها في مرحلة متقدمة من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
ومن أمام الزنزانة التي كان يحتجز فيها السنوار، كشفت رئيسة مصلحة السجون الإسرائيلية سابقًا كيتي بيري، في تصريح للقناة 12 الإسرائيلية، أنه في إحدى عمليات التفتيش المفاجئة عثر على كتاب بحوزة السنوار، يعتقد أنه بخط يده، مشيرة إلى أنه “يقرأ إستراتيجية قادة الشاباك ضمن قاعدة اعرف عدوك”.
رواية “الشوك والقرنفل”
إذا كانت المذكرات بمثابة نافذة لفهم مؤلفيها، فإن رواية “الشوك والقرنفل” مخصصة لأولئك المهتمين بفهم زعيم حماس في غزة، وتكتسب هذه الرواية أهمية توثيقية كبيرة من خلال الكشف عن حياة السنوار الداخلية وأفكاره وتطلعاته على الأقل كما اختار أن يمثلها.
ترصد الرواية التي ألفها السنوار في عام 2004 مراحل تطور القضية الفلسطينية خلال تلك الفترة الزمنية، وتتناول – بما يقترب من التأريخ – تفاصيل مهمة وجوهرية في صلب القضية الفلسطينية، وتقرِّب القارئ من الشوارع والمناطق والشخصيات، وتضيء ما هو معتم في حياة الناس كالفقر وسوء الخدمات وطبيعة الحياة الاجتماعية بين الناس.
كما تمتدح المقاومة الفلسطينية، وتُظهر أن زعيم حماس عاش حياة تركز على الإيمان، ومشروع مهووس لبناء بنية تحتية للمقاومة في غزة، وتصف الاحتلال الإسرائيلي وإبداع المقاومة الفلسطينية وصمودها. على سبيل المثال، عندما تغلق سلطات الاحتلال الجامعة الإسلامية، يقوم الأساتذة بإلقاء محاضرات في مساجد مختلفة.
ويشيد وصف الكتاب المؤَّلف من 212 صفحة، والقريب إلى شبه سيرة ذاتية تحكي تاريخ قطاع غزة، بأنه “سجلات للسعي الدؤوب للتحرر”، ويتعمق في موضوع “الاعتقال في السجون الإسرائيلية”، ويعرض الاختيار الصعب الذي يواجهه بعض الفلسطينيين المهجرين للعمل في “إسرائيل”، ويتضمن قراءة أساسية لأولئك الذين يهدفون إلى فهم التوترات المستمرة داخل الشرق الأوسط.
ولا يمكن اعتبار هذا الكتاب رواية بالمعنى التقليدي، إذ يتكون النص من أوصاف للعمليات العسكرية تتخللها أحداث من الحياة الاجتماعية لبطل الرواية، ويكتب المؤلف في أجزاء من الصفحات عن هذه العمليات دون أي ذكر للحبكة الرئيسية، بالإضافة إلى ذلك، لم يقتصر السنوار على غزة فقط، بل سلط الضوء على سكان الضفة الغربية وأعمال المقاومة هناك.
كتاب “المجد”
خرج هذا الكتاب إلى النور عام 2010، يستعرض عددًا من الاغتيالات والتصفيات لرموز وقادة المقاومة التي يقف خلفها بصورة مباشرة جهاز “الشاباك”، ويرصد عمل الجهاز في جمع المعلومات، وزرع وتجنيد العملاء وأساليب وطرق التحقيق الوحشية من الناحية النفسية والجسدية، إضافة إلى تطور نظرية وأساليب التحقيق والتعقيدات التي طرأت عليها وحدودها.
وكان جهاز حماس الأمني المعروف باسم “مجد” تجربة فريدة عكست حرص السنوار على تحسين الأمن الداخلي للمقاومة والسياسة الفلسطينية، وانحصرت مهمته في ملاحقة العملاء والجواسيس المتعاونين مع “إسرائيل” وتحييدهم، وما لبثت أن أصبحت هذه الوحدة جهاز أمن داخلي كامل، يراقب جهود المخابرات الإسرائيلية ضد فلسطين، ويتتبع ضباط المخابرات وأجهزة الأمن الإسرائيلية، وقد نشط خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى حتى بدأت قوات الاحتلال ملاحظة نشاطه المتصاعد وملاحقته.
وقال السنوار في أثناء اعتقاله بسجن نفحة الصحراوي إن أهمية هذا الكتاب تنبع من حساسية هذا الجهاز وخطورة أعماله في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وأهمية دراسة كل شيء متوافر عنه لمستقبل هذا الجهاز، لذا وجد أن الواجب يحتم عليه تأليف هذا الكتاب مستعينًا بكتاب “القادم لقتلك” لرئيس جهاز الشاباك السابق يعقوب بري، بالإضافة إلى تقارير عديدة نشرتها وسائل الإعلام الإسرائيلية المختلفة.
كتاب “حماس: التجربة والخطأ”
واحد من الكتب التي ألفها السنوار، ويستكشف تجربة حركة المقاومة الفلسطينية وتطورها على مر الزمن، والاستشراف بمستقبلها في صراعها مع “إسرائيل”، لا سيما أنه هو نفسه أحد أقطابها الرئيسين.
رحلة في عقل السنوار
حين دخل السنوار السجن كانت حماس في مهدها، أقرب إلى حركة صغيرة تنتهج السرية بلا جيش ولا نفوذ جغرافي، وفي العام الذي تم اعتقاله فيه، أصدرت حماس ميثاق مبادئ يتضمن هدف تدمير “إسرائيل”، وبعد إطلاق سراحه، لم يستغرق الأمر سوى أسبوع واحد لعودة السنوار إلى اتصالاته وأنشطته، وكان أول ما قاله “غزة هي مركز العالم”، ورأى في ذلك واقعًا جديدًا “حماس أكبر وأقوى وبآلاف المقاتلين”.
وبعد سنوات قليلة من إطلاق سراحه، ترَّشح السنوار لعضوية المكتب السياسي لحماس، وتقلد مناصب أمنية وعسكرية حساسة، منها مسؤولية الجهاز العسكري لكتائب القسام، وبدأ نفوذه يتسع في أروقة الحركة وأجهزتها حتى تفرَّد بساحة غزة عام 2017، وصعد إلى رأس الهرم في قيادة حماس، وعزز شعبيته بكسب جولة انتخابية ثانية في مايو/أيار 2021، رغم تاريخه الأمني والعسكري الطويل.
ولم يكن السنوار الذي يحمل شخصية قلَّ نظيرها موضع جدل بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول فحسب، فلطالما كان صاحب أكبر نفوذ في فلسطين المحتلة مع ابن مخيمه محمد الضيف، ويحظى بشعبية كبيرة، ويحسب الكثيرون له حسابًا حتى من داخل حماس، وقد تحدى أن تغتاله “إسرائيل” علنًا، ومنحها ساعة لتنفيذ وعيدها باغتياله.
كل أسير فلسطيني في السجون الإسرائيلية، وبعد فوزه بولاية ثانية كزعيم لحركة حماس في غزة، تعهد مرة أخرى بتحرير السجناء الفلسطينيين، ولا يزال يستثمر في محنة السجناء الفلسطينيين.
وأسس السنوار هيكلًا حكوميًا يدير شؤون القطاع بمتابعة مباشرة منه، وحوَّل كتائب القسام من فصيل عسكري إلى جيش مصغر أكثر تنظيمًا وتنوعًا، وكان مهتمًا بتطوير القدرات الصاروخية وجهاز الاستخبارات العسكرية التابع لكتائب القسام، وقام بتوسيع غير مسبوق في العمل على مشروع حماس الاستراتيجي “الأنفاق”، الذي يتولاه بشكل مباشر شقيقه محمد السنوار، أحد قادة كتائب القسام.
وأصبحت الأنفاق اليوم أكبر معضلة تواجه الاحتلال على الإطلاق، حيث يُعتقد أن شبكة أنفاق غزة ضمن الأعقد في العالم، وتضم غرفًا كبيرة للقيادة المركزية وغرفًا للتحكم والسيطرة ومهاجع للجنود ومخازن للأسلحة والذخيرة ومراكز اتصالات، عدا عن شبكة الأنفاق الهجومية التي يستخدمها عناصر كتائب القسام في شن العمليات مواجهة التوغل البري الإسرائيلي في غزة.
وعلى عكس ما كان يجري تحت الأرض، خدعت حماس “إسرائيل” وأعطتها شعورًا زائفًا بالهدوء، وفي مقابلات عدة قبل الهجوم الأخير، قال إنه لا يسعى للمواجهة، وأظهر دعمًا لوقف إطلاق النار المؤقت مع “إسرائيل”، وتبادل الأسرى، والمصالحة مع السلطة الفلسطينية، وقال لصحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية: “لا أريد المزيد من الحروب”، وهو ما دفع التقييم الرسمي الإسرائيلي إلى استبعاد أن تخوض حماس حربًا أخرى.
وفي حين أن مسؤولي حماس لم يتحدثوا أبدًا بشكل مباشر مع السلطات الإسرائيلية، إلا أن السنوار عمل من خلال وسطاء على إقناع “إسرائيل” بالنوايا الحميدة لجماعته، وكجزء من هذه الجهود، تعاون مع السلطة الفلسطينية للتفاوض بشأن تصاريح العمل الإسرائيلية لنحو 18 ألف من سكان غزة، ما سمح لهم بدخول “إسرائيل” كعمال يوميين.
نتيجة ذلك، قلَّص جيش الاحتلال مراقبته للسياج الحدودي مع غزة بشكل كبير في السنوات الأخيرة، بالاعتماد على أجهزة الاستشعار الإلكترونية، ونقل قواته إلى خارج المنطقة لحراسة المستوطنات في الضفة الغربية، وفضَّل محللو الاستخبارات العسكرية التركيز على إيران وسوريا لأن العمل على القضايا الفلسطينية لم يكن يعتبر ذا أهمية وجودية، وكان الشعور السائد هو أن حماس قد تم ردعها، والتحديات الحقيقية تكمن في أماكن أبعد.
يقول مسؤولون إسرائيليون إن أداء السنوار العلني كان مجرد خداع محض لكسب الوقت وتوجيه الضربة القاضية لـ”إسرائيل”، حتى وصفه رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو بـ”رجل ميت يمشي”، في إشارة إلى أنه المطلوب الأول للتصفية، وتتهمه “إسرائيل” بالتخطيط لهجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، وتصنفه جهات أمنية إسرائيلية كأحد رؤساء جناح الصقور في قيادة غزة.
وفي عام 2015، أدرجت وزارة الخارجية الأمريكية السنوار على لائحتها للإرهابيين الدوليين في خطوة للضغط على حماس، وهو ما تم تطبيقه أيضًا على شخصيتين كبيرتين أخريين، محمد الضيف وروحي مشتهى، وفي مايو/أيار 2021، استهدفت غارات جوية إسرائيلية منزله ومكتبه في قطاع غزة.
كانت قواعد اللعبة التي اتبعها السنوار منذ أن أصبح زعيمًا لحركة حماس في غزة قبل 7 سنوات هي تذكير الإسرائيليين باستمرار بأنهم في صراع مع الفلسطينيين، في لحظة ما ينخرطون بشكل بناء مع “إسرائيل”، وفي اللحظة التالية، يتبعون وسائل عنيفة لتحقيق أهداف سياسية.
كيف خدع السنوار الاحتلال؟
قبل أكثر من عام على انطلاق عملية “طوفان الأقصى”، كان جهاز العمل الجماهيري في حركة حماس يحشد أنصار الحركة لاحتفاليتها بذكرى انطلاقتها لعام 2022، وكان الشعار الذي وضعته الحركة لانطلاقتها “آتون بطوفان هادر”، ليس هذا فحسب، بل كانت هذه الكلمات تخرج من فم الرجل الأكثر نفوذًا في حماس.
لم يكن هذا التهديد الوحيد الذي صرح به السنوار، بل أشار في مرات عديدة إلى أعداد هائلة من الصواريخ والمقاتلين وغيرهم، لكن أكثر فلسطيني يعرف حماس كان يدرك أن الإسرائيليين لا يتوقفون عن التفاخر بقدرات جيشهم وتفوقهم العسكري، عدا عن النظرة الدونية العنصرية التي تتملكهم تجاه الفلسطينيين، والتي جعلتهم غير قادرين على رؤية التهديد الأمني الوشيك.
قبل كل ذلك، فهم السنوار عقيدة الحروب الإسرائيلية التي صاغها مؤسس الكيان الإسرائيلي ديفيد بن غوريون، وتستند إلى 4 عناصر: كل حرب تخوضها “إسرائيل” يجب أن تكون مفاجئة للعدو، وصاعقة على نحو يفقده توازنه، وقصيرة بحيث كانت تتجنب كل الحروب الطويلة والاستنزاف العسكري، أما العنصر الرابع فهو نقل المعركة إلى أراضي الآخرين.
وفي هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، استخدم السنوار هذه العقيدة الحربية ضد مخترعيها، وكانت عبارة “آتون بطوفان هادر” وعدًا مفعولًا، فحطَّم هيكل الاحتلال، وجرف بطوفانه جدار الوهم، وسحق هيبة جيش الاحتلال عند أعتاب غزة، وفي أول رسالة له بعد “طوفان الأقصى” قال السنوار: “ما رأته إسرائيل في 7 أكتوبر كان بروفه لا أكثر”.
صدمة “إسرائيل” العارمة من الهجوم الوجودي كما يراها قادتها دفعتها إلى شن واحدة من أعنف الحروب على الرقعة الجغرافية الصغيرة التي يقبع فيها أكثر من مليوني فلسطيني، وبينما يحول جيش الاحتلال غزة إلى أنقاض في مهمته المتعثرة لتدمير حماس، يظهر السنوار باعتباره مهندس عملية “طوفان الأقصى”، وتحمله “إسرائيل” مسؤولية هجوم كبدها خسائر بشرية وعسكرية، وهزَّ صورتها الأمنية والاستخباراتية أمام العالم.
ولأن الإسرائيليين استنتجوا أن هجومًا كهذا من تدبير عقل السنوار الذي تحرر من سجونهم، ويُعتقد أنه يدير العمليات مع باقي قادة الجناح العسكري لحماس في أعماق شبكة أنفاقها الواسعة تحت الأرض، فقد جعلوا اغتياله هدفًا من هذه الحرب، وعدَّلوا تصنيفه إلى المطلوب الأول لـ”إسرائيل”، وهو التصنيف الذي احتله محمد الضيف لسنوات، ووضعوا مكافأة تقارب نصف مليون دولار لأي شخص يدلي بمعلومة تشير إلى مكان وجوده.
عندما سُجن السنوار في “إسرائيل” قبل أكثر من عقد من الزمان، شرح ليوفال بيتون، الذي قضى بعض الوقت معه بصفته الرئيس السابق لقسم المخابرات في مصلحة السجون الإسرائيلية، استراتيجية أصبحت الآن محور الحرب في غزة، وقال إن “ما تعتبره إسرائيل نقطة قوة هو ضعف يمكن استغلاله”، في إشارة إلى خدمة معظم الإسرائيليين في الجيش وتمتعهم بمكانة خاصة في المجتمع.
وتعتمد استراتيجية السنوار التي بناها من خلال معرفة عميقة بنفسية المجتمع الإسرائيلي على استعداد الاحتلال لمبادلة الأسرى الفلسطينيين بالأسرى الإسرائيليين من الجنود والضباط في غزة، والتي أثبتت دقتها في عام 2011 عندما كان السنوار واحدًا من 1027 أسيرًا فلسطينيًا تم إطلاق سراحهم مقابل جندي إسرائيلي واحد.
وكان الهجوم المفاجئ في 7 أكتوبر/تشرين الأول أبرز شواهد استراتيجيته، إذ اعتمدت على أسر أكبر عدد ممكن من الإسرائيليين، لمبادلتهم لاحقًا بالأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، ويراهن السنوار على أنه قادر على إطلاق سراح آلاف السجناء الفلسطينيين وتحقيق وقف دائم لإطلاق النار، وأظهر قدرته على إدارة ملف مفاوضات الرهائن، والتحكم وإملاء شروطه على الاحتلال في صفقة تبادل الأسرى.
وأشارت تقارير عديدة إلى أن السنوار تلاعب بنفسية الإسرائيليين خلال مفاوضات الرهائن التي أسفرت عن صفقة التبادل التي جرت في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي خلال هدنة إنسانية مؤقتة، إذ أوقف الاتصالات مرات عديدة للضغط على “إسرائيل” للموافقة على وقف مؤقت من شأنه أن يمنح حماس الوقت لإعادة تجميع صفوفها، قبل أن يعود لها لاحقًا بعد موافقة “إسرائيل” على شروط المقاومة، وعندما تم إطلاق سراح الرهائن، كان ذلك على دفعات كل يوم، مما خلق شعورًا يوميًا بالقلق في المجتمع الإسرائيلي.
هذا النوع من الصفقات غالبًا ما يبرز هشاشة الاحتلال، لذلك يلجأ إلى ملاحقة القادة وتصفيتهم بعد تحريرهم، وهو ما فعلته “إسرائيل” عندما أفرجت عن الشيخ أحمد ياسين في عام 1985 في صفقة تبادل شملت أكثر من 1000 أسير مقابل ثلاثة جنود إسرائيليين، وعندما عجزت عن وضع حد لنشاطه، لجأت إلى اغتياله بثلاثة صواريخ عام 2004، ومؤخرًا، وقبل دخول أي صفقة جديدة حيز التنفيذ، يتهور نتنياهو كعادته، ويهدد باغتيال مزيد من القيادات.
وبحسب مجلس الحرب الإسرائيلي، فإن “الحرب لن تنتهي إلا بتدمير قيادة حماس في القطاع، بما في ذلك السنوار”، ومع ذلك، تواجه حكومة الاحتلال ضغوطًا متزايدة للعمل مع السنوار من أجل تحرير الرهائن المتبقين.
ويصعب تخيل الرجل الذي انتزع أوراق قوته من فم التمساح يستسلم، وبقي الاحتلال عاجزًا عن الوصول إليه رغم استخدام قوة نارية غير مسبوقة، وإحداث دمار لا مثيل له في مدن القطاع، وأزمة إنسانية ساحقة، لتبدأ مرحلة عض الأصابع، وتنحسر الخيارات بين المضي قدمًا في الحرب أو الوقف الدائم لها، وقد يحمل الجواب قصة الرجل الذي اختلطت معه قصة غزة وفلسطين، ومستقبل قضية طال بها العمر وطال بشعبها المعاناة.
المصدر ك: نون بوست