محمد الحمامصي
تحديد الهوية خارج الزمان والمكان والظروف يقود بالضرورة إلى حالة من الانغلاق الثقافي، الذي يغفل دور الهجرات والأحداث في تشكيل الهوية المتغيرة باستمرار والمتأثرة بما يحدث في سياق أنها معطى تاريخي لا معطى خارج التاريخ، وهذا ما يبحث فيه الفرنسي جان فرنسوا بايار في كتابه “أوهام الهوية”.
ويرى الأكاديمي الفرنسي المتخصص في العلوم السياسية وعلم اجتماع الدولة التاريخي المقارن جان فرنسوا بايار أن الهوِية ليست طبيعة تفرضها الأوضاع، بل هي بناء ثقافي وسياسي وأيديولوجي؛ أي بناء تاريخي بالأساس. ومن ثم فمصطلحات مثل السكان الأصليين والهوية الأصلية هي تعبيرات خادعة وغير موفَّقة؛ فلا توجد هوية نقية خالصة، بل توجد إستراتيجيات للهوِية.
ويؤكد في كتابه “أوهام الهوية” أن ما يرمي إليه هو النيل من الحماقات المتعلقة بالهوية بطرح إشكالية النظرة المضادة للتقوقع الثقافي بالنسبة إلى العلاقات بين الثقافة والسياسة.
خلق الثقافة
يقول جان فرنسوا بايار إن العمل السياسي في حد ذاته عمل ثقافي ولا تكمن القضية في ذلك. بيد أن الانغلاقية الثقافية عاجزة بالذات عن تحليل ذلك الترادف الوثيق بين الثقافة والسياسة؛ لأنه يُعرف الثقافات كجوهر مستقل، ويسلم مقدما بأن العلاقة بين تلك الثقافات والعمل السياسي علاقة خارجية، على نمط الترابط أحادي الجانب بين العلة والمعلول.
ويضيف “أنا لا أنكر أن هناك تقليدا فكريا متكاملا يعتبر الثقافة مبدأً للانفتاح والعالمية. وزد على ذلك أن النقاد الأوائل لعصر التنوير لا يرفضون بالكامل التراث الكانطي ويظلون سابقين على القومية وعلى الانغلاقية الثقافية على غرار هردر الذي لم يكن قد تحدث بعد بصراحة عن روح الشعب. لقد تعين بالفعل انتظار الرومانسية الألمانية لكي تصبح الثقافة مبدأ استبعاد، من فرط كونها مبدأ انفراد وانتماء، ولكي تغذي الروح القومية وما هو أسوأ من ذلك من عنصرية. وفيما عدا العواقب السياسية التي ترتَّبت على تحويل فكرة الثقافة (أو أتاحت هذا التحول)، فإننا نصادف اليوم مشقة كبيرة في فهم العلاقة التي تقيمها مع ممارسات السلطة”.
ويتابع بايار في كتابه، الصادر عن مؤسسة هنداوي، أنه “من منحدرات بوجوليه حتى بلاد الباميليكة، ومن الجنوب الأميركي الجواني حتى ليبيريا، ومن لوساكا إلى روما، ومن مقاطعة فو إلى بلاد الأوفيمبودو، أي باختصار من أرض تاريخية إلى أرض أخرى، تذكرنا عمليات تبادل الاختراعات في مجال التقاليد التي تشكل الحركة العامة للكوكبة منذ أكثر من قرن، بأنه لا توجد ثقافة إلا وتم خلقها، وأن هذا التخليق يعود عموما إلى عهد قريب. وفضلا عن ذلك فإن تشكيل ثقافة أو تقليد ما يكون بالضرورة من خلال الحوار، ويتحقق في تفاعل متبادل مع البيئة الإقليمية أو الدولية. وهذا ما يلزم أن نؤكده ونحن نترك الحقائق الملموسة لنخوض مجال المنهج”.
ويبين أنه قد سبق أن رأينا أن التفكير الثقافي الانغلاقي يعتبر ضمنيًّا أن التوافق بين مجتمع سياسي ما وبين تماسكه الثقافي مسألة مفروغ منها أو ضرورية على أي حال، سواء كان ذلك التماسك الثقافي أصيلًا أو متوارثا (روح الشعب) أو رشيدا ومختارا. وهذا ما يمكن أن يكون الوهم الذي أشاعته بعض الدول التي باتت أقدامها راسخةً اليوم، والتي حققت وحدتها السياسية من خلال بناء وحدتها الثقافية في وقت متأخر إلى حد أو آخر، على غرار اليابان والصين والدول – الأمم الأوروبية الغربية أو القوميات الاثنية اللغوية في أوروبا الشرقية بما في ذلك تركيا.
ولكن يجب، في رأيه، ألا نعتبر الاستثناء قاعدة عامة، ويتعين أيضا ألا تخدعنا النزاعات الشرسة بسبب الهوية، والتي يتظاهر متزعموها بأنهم يعرفون من هم ومن يقتلون، وذلك لأن تلك الأحداث ليست سوى الثمار المتأخرة لحركة الانغلاق الثقافي في القرنين التاسع عشر والعشرين. ويوفر لنا التاريخ والأنثروبولوجيا العديد من الأمثلة لمجتمعات ليست لديها ثقافة محددة، يقيم أعضاؤها هويتهم على التبادل والتهجين والاستعداد للتأقلم مع أي بلد ومع كل عادات قوية متنوعة (الكوزموبوليتية). وكانت أغلب الأصقاع البحرية مناطق تهجين تولدت منها حضارات تلفيقية تفاوتت درجات تألقها، وكانت بصفة عامة مفتتةً من وجهة النظر السياسية، ومن بينها مثلًا المناطق السديمية التي درسها س. ج. تامبياه في جنوب آسيا، وجنوبها الشرقي.
ويرى أن التعريفات الإثنية للثقافة لا تسمح بإدراك الجانب الإيجابي التاريخي لتلك المظاهر الخارجية التي نميل إلى الاعتقاد بأنها غير مستكملة. وفي هذا الصدد يشكل “ملتقى الطرق الجاوي” (نسبة إلى بحر جاوة المتصل ببحر الصين والمحيط الهادئ عن طريق عدة مضايق) حالة نموذجية، شأنه شأن البحر المتوسط أو البحر الكاريبي.
الثقافة ليست الامتثال أو التماثل بقدر ما هي العمل؛ عمل الجديد باستخدام القديم وعمل القديم باستخدام الجديد
يقول “كانت آفاق التجارة محددة بالطبع: الصين، والهند، والبلاد العربية، وأفريقيا السوداء. ولكن التجار الذين كانوا يزاولونها انحدروا في الغالب من زيجات مختلطة ومتعددة اللغات بالطبع، وكانوا يشكلون وسطًا اجتماعيا شديد التنوع وتلفيقيا، منفتحًا على كل الثقافات ومتقبلا للأيديولوجيات الكونية. ويتعين أن نتفهم على هذا الأساس الديانتين اللتين ترسختا على التوالي في جنوب شرق آسيا، ألا وهما البوذية والإسلام، علمًا بأن الغربيين يميلون إلى تصورهما على التوالي كمفاهيم هندية أو عربية، مع إضفاء صبغة عنصرية عليهما. وقد تغلغلت هاتان الأيديولوجيتان الكبريان بقوة في أقاصي آسيا لأنهما كانتا تستبعدان العامل الاثني، على عكس ديانات أخرى مثل الهندوكية التي أججت النزعة الاثنية. وفي هذا المجال لم تكن الصين كتلة طاردة، منطوية على كونفوشيوسيتها، إذ قامت بدور مركز توزيع بل ودور المحرك؛ فقد تأثرت بعمق بكلٍّ من البوذية والإسلام عن طريق آسيا الوسطى والبحار”.
ويوضح بايار أن القضية تتجاوز الأصقاع البحرية والتجارية. فليس من الممكن مثلًا تحديد هوية مجتمع أفريقي ما ليس على ما يبدو مجتمعًا حاجزا وهامشيا. فقد حطمت الأبحاث الأنثروبولوجية على مدى السنوات العشر الأخيرة أسطورة “التقاليد السودانية”، إذ ظلت مجتمعات وادي النيل باستمرار متفاعلة بالتبادل مع الممالك الإسلامية التي تربطها بأسواق النخاسة في زنجبار ومصر والإمبراطورية العثمانية، مع تواجد مساحات شاسعة غير مطروقة بين مراكز السلطة الرئيسية تحول دون التوصل إلى عالم قبلي متماسك، ونظام تخاطب متكامل وجامد التفكير، يتماشى مع الافتراضات القديمة للإثنولوجيا.
ويميل الأنثروبولوجيون الآن إلى التخلي عن مفهوم الاثنية -وإن كانوا لا يتخلون بالضرورة عن الوعي الاثني- ويتحدثون عن “سلسلة من المجتمعات” كانت تتكون في نطاقات إقليمية تتفاوت مساحاتها وتعقيداتها: نطاقات تجارية، أو نقدية أو دينية أو سياسية تتناضد دون أن تتطابق بالضرورة. وفي ظل هذه الأوضاع كان عدم الترابط بين النظام السياسي والتمثلات أو الممارسات الثقافية غير منتظم بالتأكيد. فالشعوب التي يتم إخضاعها كانت تواصل ممارسة طقوسها وعاداتها في الممالك، وأيضًا في المجتمعات ذات الترابطات الأسرية، علمًا بأن ملاحظة ذلك قد تكون مسألة صعبة.
التفكير الثقافي الانغلاقي
يؤكد الكاتب أن الاستعمار لم يؤد إلا إلى تأجيج تلك التعددية الثقافية بتجميد التقاليد، وتغيير طبيعة اللامساواة الاجتماعية، وإقحام التفرقة العنصرية. وهو لم يكتفِ بالقضاء على عدم التحديد النسبي للثقافة في الأزمنة الغابرة من خلال فرض الحضارة الرشيدة والقانونية، بل وزادها تعقيدًا بأن أضاف إليها أبعادا ثقافية أخرى؛ فأفريقيا تعتمد اليوم على قالبين ثقافيين يُعتبران في آنٍ واحد ضروريين ومتناقضين. وقد يختلف البعض حول الطابع المتناقض لهذين القالبين، وحول قدرة الأفارقة على التغلب على التناقض.
وعلى أي حال فإن الأفارقة يميزون بينهما. فمثلا يواجه الباكونغو في زائير النظام الثقافي للبيض (الكيموندليه) بالنظام الثقافي للسود (الكيندوميه) اللذين يتطلبان استعدادات جسدية وعقائد مختلفة. وتتيح بالذات تقاليد الإيمان بالنبوءات إمكانية تجاوز ضروب التنافر بين هذين العالمين. وبالمثل يتحدث الأفارقة في توغو والكاميرون عن “بلاد البيض” للإشارة إلى المدينة وعن عمل البيض لوصف العمل بالأجر. غير أن هذه التباينات الثقافية لا تقتصر فقط على التراث الاستعماري، بل تشمل أيضًا المجتمعات غير المركزية أو الأطراف المهمشة من جانب المركز.
كان صرح الإمبراطورية الرومانية الضخم يعتمد على بنية غير مباشرة وعلى سياسة التقسيم إلى مناطق؛ ما شجع على تباين المعتقدات والعادات. وفضلًا عن ذلك كادت هذه الإمبراطورية تتأغرق، وذلك على غرار ما جرى بعد ذلك بما يربو على ألف عام في اليابان في عهد عشيرة ميناموتو التي أضحت صينية بأتم معنى الكلمة. والثقافة الروسية التي تتصور أنها نابعة من أعماق الأراضي الروسية ظلت دومًا مرتبطة بقطب مرجعي أو طارد أجنبي، ألا وهو بيزنطة في العهد المسيحي، ثم بأوروبا في عصر التنوير من خلال إصلاحات بطرس الأكبر، والآن عن طريق “المستقبل المشرق” الذي يعد به اقتصاد السوق كما يفهمه جهابذة واشنطن.
ويشير بايار إلى أن الخبرة التاريخية تثبت أن هوية الفرد مرتبطة بالأوضاع، ومتعددة الجوانب ونسبية. فالشخص المقيم في سان مالو سيُعرِّف نفسه على أنه مالوني في مواجهة آخر من رين، وكمواطن من مقاطعة بريتانيا في مواجهة مواطن من باريس، وكفرنسي في مواجهة مواطن ألماني، وكأوروبي في مواجهة أميركي، وكأبيض في مواجهة مواطن أفريقي، وكعامل في مواجهة صاحب العمل، وككاثوليكي في مواجهة البروتستانتي، وكزوج في مواجهة زوجته، وكمريض في مواجهة طبيبه. وكل هوية من هذه الهويات “مفترضة ضمنيًّا” كما يقول ماكس فيبر عن الاثنية، ومن الممكن أن تيسر الاندماج في جماعة اجتماعية، في المجال السياسي مثلًا، دون أن تؤسس في حد ذاتها مثل هذه الجماعة.
وبالطبع فإن أيًّا من تلك الهويات لا تستنفد على أي حال تلك التشكيلة الكبيرة من الهويات. والتفكير الثقافي الانغلاقي أخرق لأنه لا يكتفي بتحويل الهويات المتغيرة باستمرار إلى مسألة لا ترتبط بالزمن، بل وتتستر على العمليات الملموسة التي يعرف أنفسهم بها مجموعة من الأفراد أو فرد واحد في لحظة تاريخية معينة، وفي ظروف محددة ولفترة محدودة. ولنكرر مرة أخرى أن الواضح تمامًا أن جماعات من الهوتو قتلت جماعات من التوتسي في رواندا باسم الهوية الاثنية لكلٍّ من الطرفين. ولكن لو كان كل طرف لا ينساق إلا وراء هذا البرنامج الخاص بالهوية، لما استطعنا أن نفهم لماذا انتظرا طويلًا قبل أن يتقاتلا، ولماذا لم يعمد بعض الهوتو إلى القتل، وذلك بالاستناد إلى خطوط أخرى تتعلق بالهوية خلافًا لانتمائهم الاثني (إيمانهم بالمسيحية، أو بالمثل الديمقراطية أو بالقومية الرواندية)، كما أننا سنجد بعض المشقة لنفهم لماذا أقلع الكاثوليك عن مقاطعة البروتستانت، وكيف تصالح الفرنسيون مع الألمان.
لا توجد ثقافة إلا وتم خلقها؛ فتشكيل ثقافة أو تقليد ما يكون ضرورة بالحوار والتفاعل المتبادل مع البيئة الإقليمية
ويبين الكاتب أنه لا يمكن فهم تطور أعمال العنف بين الطوائف إذا تم تجاهل التغيرات في مجال الهوية. فالتاجر الذي يتم التعامل معه وتقام معه علاقات اجتماعية في إطار الحي أو القرية يتحول فجأةً إلى العدو المشتبه في شر نواياه، الذي يغتصب أو يقتل. وتثير مثل هذه الانزلاقات القاتلة المفاجئة سخط المراقبين الأجانب؛ لأنهم يعتبرون مبدأ وحدة الهوية مسألة مفروغًا منها. ويكون هذا التطور مفهومًا إذا اعترفنا بأن كل طرف يعكف على تشكيل الهوية حسب كيمياء الظروف.
وهنا تكون فكرة الجماعة عُرضة للأخذ والرد؛ فهي توحي إلى حد كبير بأننا ننتسب إلى نوع واحد من الهوية يملي علينا مصالحنا وانفعالاتنا، بينما نحن متواجدون في الواقع إزاء جماعات متعددة متفرقة جزئيًّا، ومتراكبة جزئيًّا. ولكن ما جدوى الحفاظ إذن على اصطلاح خادع بالتأكيد؟ وليس المقصود هنا إنكار التأثير الرهيب للهويات التي يستشعرها الناس كأمر جوهري. فبقدر ما يجب أن نقتنع بـ”الأصل المصطنع للاعتقاد بالانتماء إلى اثنية مشتركة”، يجب أن نعترف أيضًا بأن هذا الاعتقاد فعال، وأن الترابط العقلاني يمكن أن يتحول إلى علاقات شخصية أو وعي جماعي. والهويات الأولية متواجدة بطريقه ما، كصنائع للوعي وكنظم للذاتية، لا كبنًى.
ويشدد بايارعلى أن الثقافة ليست الامتثال أو التماثل بقدر ما هي العمل؛ عمل الجديد باستخدام القديم، وأحيانًا أيضًا عمل القديم باستخدام الجديد، وعمل ما هو ذاتي عن طريق الآخر.
وأخيرًا تسوق النزعة الثقافية الانغلاقية تفسيرًا خاطئًا بأن تنسب إلى مثل تلك العمليات الثقافية، التي لا تفهم منطقها، توجهات سياسية محدَّدة بدقة. فالرأي العام الفرنسي الذي يفزعه الإسلام بربطه بممارسات ومعتقدات معينة -عزل النساء، والجهاد المقدس، وقطع يد السارق، والإيمان بالقضاء والقدر- قد يصبح تفكيره أقل آليةً لو أنه تذكر أن المسيحية أضفت الشرعية على الأحمر والأسود، وفي آن واحد في الكثير من الأحوال. وكان الأمر على هذا النحو في المجال الاجتماعي؛ فقد رأينا الكاثوليكية البريتانية المناهضة للثورة وللجمهورية والمساندة للسلطة المطلقة للكنيسة، تتحول إلى عامل تحديث وتقيم الحركة النقابية الزراعية الأشد تقدمية في عصرها، وتنشئ صحافة مستقلة وتفتح الطريق أخيرًا للتصويت لصالح اليسار.
نقلا عن العرب اللندنية