أحمد برقاوي
كاتب فلسطيني
في مدينة هي واحدة من أقدم مدن الدنيا تسمى معرة النعمان، وتقع بالقرب من أقدم مدن العالم – حلب؛ حاضرة الاقتصاد والثقافة في سوريا المعاصرة، ولد عام (973 م) صاحب العقل التنويري العظيم الفيلسوف الشاعر أحمد بن عبدالله المعروف بـ ( أبو العلاء المعري ) ومات فيها عام (1057).
ومن الصعب جداً التأريخُ لمسار العقل في كفاحه الفكري من أجل استقلاله وحريته دون الوقوف عند هذا العلّامة البارز، الذي أعلن مركزية العقل قبل ستة قرون من إعلان الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت بأنّ “العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس”.
بكل وضوح، قال فيلسوف العقل، أبو العلاء :
“كذب الظن لا إمام سوى العقل مشيراً في صبحه والمساء”
مركزية العقل بوصفه إماماً
وما إعلان مركزية العقل بوصفه إماماً وحيداً إلا رفض لكل ما لا يقبله التفكير العقلي الذي ينتمي إلى الظن.
والقول بمركزية العقل تأكيد لمركزية الإنسان، وتأكيد لحق العقل في الشك والرفض والتيقن والبرهان.
ولهذا وجد أبو العلاء بأن النقيض للعقل هو الدين الذي يفتقد أدوات العقل في التفكير.
وإن يقسّم فيلسوف شاعر، عاش من نهاية القرن العاشر الميلادي حتى منتصف القرن الحادي عشر، البشرَ إلى أهل عقل وأهل دين، وفِي عصر ساد فيه الظنيّ في كل أرجاء البشرية لهو أمر يعلي من شأن المعري في تاريخ العقل الإنساني. أليس هو القائل:
“اثنان أهل الأرض ذو عقل بلا دين وآخر ديّن لا عقل له”.
*قول أبي العلاء المعري بمركزية العقل تأكيد لمركزية الإنسان، وتأكيد لحق العقل في الشك والرفض والتيقن والبرهان*
وتأسيساً على هذا القول بوصفه حُكماً كلياً راح هذا الفيلسوف الشاعر يؤلف الكتب العديدة؛ بدءاً من كتابه الأبرز “رسالة الغفران” -التي نسج على منوالها الشاعر الإيطالي دانتي اليغييري (1265-1321) “الكوميديا الإلهية” مروراً بكتبه: “رسالة الملائكة و”الفصول والغايات” و”سقط الزند” وانتهاءً بكتاب “لزوم ما لا يلزم”، الذي أودعه كل حدوسه الفلسفية حول الإنسان و الدين و العقل.
و سؤال الإنسان “عند أبو العلاء” سؤال أساسي لأن الإنسان هو مصدر الشر والخير. فالإنسان كما يراه “المعري” شرير في طبيعته، وهو القائل:
“ألم تَر أنّ الخير يكسبه الحجى طريفاً وإنّ الشر في الطبع متّلد”
الإنسان شرير بطبيعته
تأكيد المعري بأنّ الإنسان شرير بطبيعته – و هي الفكرة التي عبر عنها الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز(1588-1679) بقوله “إن الإنسان ذئب”، وتأكيده بأن الخير مكتسب عن طريق العقل يقود إلى نتيجة مفادها أنّ تحرر الإنسان من الشر يعني التحرر من طبيعته، عن طريق ما يناقضها ألا وهي الثقافة، الثقافة التي ينتجها العقل. وعندها ينتقل الإنسان إلى الخير الذي هو مكتسب.
إنّ المعري يطرح علينا – نحن العائشين في القرن الحادي والعشرين- سؤالاً مازال الإنسان يحار في الإجابة عنه: كيف السبيل إلى الخلاص من الشر الإنساني الذي يظهر الآن في صور الحرب والقتل والدكتاتورية والاحتلال والعنصرية والقمع والاستغلال، بل كيف استطاع العقل أن يبرر كل هذا الشر بأيديولوجيات مدافعة عنه؟
بل إنّ المعري وقبل عشرة قرون طرح على البشر سؤاله المدهش: كيف للإنسان الذي يعرف الحقيقة التي لا لَبْس فيها، وهي موته، أن يُقبل على الدنيا بهذه النزعة الشريرة؟
فالموت عند المعري دليل على عبثية الوجود الإنساني:
“صاح هذي قبورنا تملأ الرحب فأين القبور من عهد عاد
خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجـســـــــاد
رُبَّ لحـدٍ قـد صـار لحـداً مراراً ضـاحـكـاً مـن تزاحم الأضــــداد
والذي حارت البريـة فيــه حَيـوانٌ مستـحــدثٌ من جــمـــــــاد”
نقد الشرائع
أبو العلاء، الذي قاده عقله الجسور إلى الشك والسخرية من وسخ الإنسان وشره، قاده أيضاً إلى ما هو أخطر من ذلك؛ أي أن يعلن، دون تورية أو تقية، بأن الشرائع هي شر وخطر على حياة الإنسان:
“إن الشرائع قد ألقت بِنَا إحناً وأودعتنا أفانين العداوات”.
*المعري، الذي قاده عقله الجسور إلى الشك والسخرية، قاده أيضاً إلى أنّ الشرائع خطر على الإنسان*
فنقد الشرائع هنا لم يعد نقد هذا التصور أو ذاك من التصورات الماورائية، بل نقد الشرائع نفسها كأصل من أصول العداوات بين الناس.
وليس هذا فحسب، بل تصل راديكالية المعري حداً يدعو للدهشة حين يرى في الترسيمات القبلية مجموعة من الأباطيل. أليس هو القائل:
“ديـن و كُـفـر وأنـبـاء تـقـص وفـرقـان يـنـص وتــوراة وإنـجــيل
في كل جيل أباطيل يدان بها فهل تفرد يوماً بالهدى جيل”
أجل لم يترك هذا التنويري الشجاع وهماً من الأوهام إلا وجرد عقله لمقارعته.
بل إنّ أسئلة المعري، بما هي كلية حول الحياة والثقافة والشر والخير والإنسان، والموت وأجوبته التي جهد في الوصول إليها، هي ذاتها أسئلة جزء كبير من سكان الأرض، وما زالت تحضر أمام كل جيل. ومن هنا تبرز راهنية أبو العلاء المعري وأهميته في مواجهة أعداء الحرية والعقل والإنسان.
نقلاً عن حفريات