أحمد بان
كاتب مصري
شاع في الثقافة العربية الخاصة بمكافحة التطرف والإرهاب، أنها وظيفة أمنية بامتياز تتكفل بمواجهتها أجهزة الأمن، والتي قد تستعين برأي المتخصصين في التطرف والسلوك والطب النفسي إذا تصادف أن قام على رأس الوظيفة الأمنية من يقدّر أهمية ذلك، لكننا نعلم بطبيعة الحال أنّ مواجهة التطرف مهمة مؤسسات متعددة في الدولة القومية، أهمها مؤسسات التنشئة التعليم والثقافة والإعلام، ثم يأتي في الأخير دور الأمن ليحاصر من استعصى على جهود تلك المؤسسات في الإصلاح والتكوين والتوجيه.
بداية يتطرف الشخص بعواطفه أو وجدانه، قبل أن يقهر عقله ومنطقه على قبول مشاعره وعواطفه، التي يؤطرها العقل المقموع في العادة بتأثير العاطفة والوجدان.
كثيراً ما كانت تتفاخر قيادات الإخوان بأنهم يسوقون الناس بقلوبهم وليس بعقولهم، فهم أشد عداء للعقل من غيرهم، حيث لا تصمد أفكارهم في العادة لنقاش منطقي عاقل.
إنّ التفاعل مع قيم الحق والخير والجمال بتذوق الفنون والأدب، من أكثر الأدوية المجربة في علاج الروح والوجدان.
ربما ليست لدينا إحصاءات دقيقة حول عدد المتطرفين الذين سبق لهم أن تدربوا على آلة موسيقية أو لون من ألوان الثقافة المختلفة، سواء مارسوها على سبيل الاحتراف أو الهواية، لكن المؤكد أننا لو أجرينا هذا الإحصاء، سنجد أنّ الأغلبية الكاسحة ممن سقطوا في براثن التطرف والإرهاب لم يكن لديهم هذا الشغف.
أليس من الغريب أن تنفق الدولة على المباني المدرسية والكتب والمناهج وكل مفردات الإدارة المدرسية الكثير، دون أن تنتبه بالقدر الكافي للنشاط المدرسي، الذي كان في السابق المحضن الأول، الذي تتشكل فيه كل المواهب الفنية في المسرح وفي الغناء والتأليف وغيرها من ألوان الثقافة.
أين ذهب النشاط الثقافي العربي المشترك؟ وأين التنسيق في صيانة الوجدان العربي بين الدول العربية التي تتشارك لساناً واحداً وثقافة واحدة، بعد أن تشاركت لسنوات وجداناً واحداً؟
يلفت كاتبنا الراحل جلال أمين أنظارنا إلى حالة حراك فكري وثقافي وتلاقح كبير بين الدول العربية، قبل أن تيسر التكنولوجيا التواصل بين الأقطار المختلفة. يقول: “أذكر في صباي ومطلع شبابي أشياء مدهشة لا أجد ما يقابلها الآن، كانت الحياة الثقافية في البلاد العربية أكثر توحداً، والصلات فيما بين بلد عربي وآخر أشد قوة في هذا الميدان مما هي الآن، كنا نسمع ونعرف عن أدباء وشعراء سوريا ولبنان أكثر مما نعرف الآن، بل كنا نقرأ جدلاً ومناقشات مستفيضة بين أديب مصري وأديب سوري أو عراقي، وكانت المجلات الثقافية المصرية تصل إلى اليمن أو المغرب أكثر مما تصل الآن، هل يمكن أن نتصور أنّ الحياة الثقافية العربية قد أصبحت أكثر محلية، وتقوقعت كل دولة عربية وانكفأت على نفسها في عصر يفاخر بأنه عصر العولمة؟”.
يشير الكاتب هنا الى قضية غاية في الأهمية، وهي أنّ هذا الزخم الفكري والثقافي فضلاً عن تحقيقه لحالة من وحدة الشعور والوجدان والثقافة، فهو يرفع الحالة العقلية للمجتمع وينشر ثقافة التفكير والجدل الحر، بالشكل الذي يصنع بيئة محصنة ضد خطر التطرف والإرهاب.
إنّ مسؤوليات الدولة القومية والعالم العربي أساسية، في استنهاض قوة مؤسسات التنشئة والتربية واضطلاعها بمسؤولياتها في رعاية الوجدان والعقل العربي.
لماذا لا تلتئم مسابقات عربية جادة في المسرح المدرسي، على مستوى وزارات التعليم في العالم العربي، وكذا مسابقات في الرسم والشعر والغناء وغيرها من ألوان الثقافة؟
لماذا لا تنهض من جديد كل أنشطة الفنون في مدارسنا، وتخصص لها درجات تحسب ضمن المجموع الدراسي، حتى يهتم بها ولاة أمور الطلاب الذين دفعهم عدم تخصيص درجات لهذا الأنشطة إلى صرف أبنائهم إلى غيرها من العلوم النظرية والعملية الأخرى.
لماذا لا تخصص هيئات الجامعة العربية والمؤسسات الثقافية العربية، جوائز لأفضل عرض مسرحي في المراحل التعليمية التي تسبق التعليم الجامعي. لماذا لا نرى وقفاً للموسيقى والفنون، كما كنا نرى وقفاً لشرب الماء والغذاء والدواء لغير القادرين؟
هل يعلم القراء أنّ القاهرة كانت تضم وحدها 40 داراً للسينما قبل حريق القاهرة قبل سبعة عقود، فما عددها الان؟!
لا ريب في أنّ أمن ورفاه مجتمعاتنا مرتبط ارتباطاً وثيقاً بإتاحة الفنون والآداب لأبنائنا عبر المحاضن التربوية والتعليمية، والأهم تغيير الثقافة الشعبية تجاه من يمتهن شيئاً من هذا الفن أو ذاك.
علينا أن نختار بين ثقافة الحياة التي ترحب بكل الفنون والآداب وترعاها، فتنتج كائناً محباً للحياة متسامحاً مع الكون، قادراً على التفاعل معه بنجاح وفاعلية، أو نعزز ثقافة الموت التي لن تنتج لنا سوى سقيمي الوجدان المعادين لكل ألوان الفنون والآداب، ليظهر لنا شذّاذ الآفاق الذين حطموا المتاحف واعتدوا على التراث الإنساني، في العديد من بلداننا عندما صعد نجم التطرف والإرهاب بعد عقود من تعطيل مؤسسات صيانة الوجدان العربي.
تبقى القوى الناعمة التي تمثلها الفنون والآداب المخرج الأكثر نجاحاً في حصار ظاهرة التطرف وتحصين مجتمعاتنا من شروره، وهي الوسيلة الأسرع والأكثر أمناً، والأهم ربما بالنسبة لكل الأنظمة السياسية الأقل كلفة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً.
نقلآ عن حفريات