فؤاد مسعد
اليوم أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية أن شهداء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة تجاوز عددهم أربعين ألف، أما الجرحى فبلغ عددهم 92 ألف وأربعمائة جريح، لا تزال الحرب الهمجية مستمرة، ويستخدم فيها الاحتلال الإسرائيلي جميع أنواع الأسلحة.
أكثر من أربعين ألف شهيد، أكثر من أربعين ألف حياة، وأكثر من أربعين ألف قصة وحكاية، لا مجال هنا لتحويل الأرواح إلى أرقام مهما كان حجم الإجرام، ومهما كان مستوى الإرهاب الذي تمارسه قوات الصهاينة في أرض غزة وفي كل فلسطين.
أكثر من أربعين ألف شهيد حصيلة حرب صهيونية مستمرة ومتواصلة، ولا توجد مؤشرات أو دلائل على إمكانية وقفها أو إنهائها، ما يعني أن أعداد الشهداء والجرحى سترتفع ولن تتوقف عند هذا الرقم، رغم كثرته وثقل حجمه ومقداره في ميزان الإنسانية، ذلك أن قتل هذا العدد الضخم بقدر ما يشير إلى بشاعة جرم القتلة فهو يَسِم وجوه الداعمين والحلفاء والشركاء والممولين بميسم الإجرام ذاته، وكذلك الجبناء المتواطئين.
منذ البدء كانت غزة.. ولا تزال، تتعرض لأبشع الجرائم المصنفة جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، لكن القوانين والاتفاقيات والأعراف الدولية شبه معطلة حين يتعلق الأمر بغزة وفلسطين، لأن العصابات الصهيونية التي تباشر كل هذا البطش والإجرام تحظى بدعم القوى العالمية الكبرى وتمويلها وتدليلها، بل والاحتفاء بجرائمها ومباركة حروبها الهمجية.
آلاف الجرائم أودت بحياة أكثر من أربعين ألف، وأسفرت عن إصابة أكثر من تسعين ألف، أغلبهم من النساء والأطفال، ومع ذلك وقفت كل دول العالم الحر والمتمدن عاجزة وضعيفة وعقيمة عن اتخاذ موقف إزاء آلة القتل التي تحصد أرواح الأبرياء ليل نهار دون توقف.
غزة وحدها.. ووحدها غزة من ظلت تحرس الشرف وتصون الكرامة في حربٍ تداعى لها شذاذ الآفاق من بني صهيون وداعموهم وحلفاؤهم القدماء والجدد، ظهرت غزة بكل ما أوتي أبناؤها من إرادة وشجاعة وقدرة على الصمود والمواجهة والتضحية، بينما تعرّت قيم الغرب وسقطت عنه أوراق التوت، فبدا فاقداً قدره وقدرته وجدارته، وهو الذي طالما خاض الحروب العالمية وأشعل الصراعات الدولية تحت دعاوى (تَقَدّمه) المزعوم و(مدنيته) الزائفة.
كانت غزة، ولا تزال.. تدفع ثمن الحرب الصهيونية الآثمة، وسط صمت العالم- إلا من مواقف بعض الأحرار – وتواطؤ الإخوة/الأعداء (العرب)، مَن كان يفترض بهم أن يهبوا لإيقاف الدمار الذي يعصف بغزة، غير أن غزة ظلت تقاوم الاحتلال وجرائمه دون أن تمن على أحد.
في الأصل بقيت غزة، عنوان صمود، وأيقونة مقاومة، والعرب يلوكون خيباتهم ويتوارون بعيداً عن ساحة الفعل أو القول حتى ترحمت الشعوب على زمنٍ كان الزعماء يحترفون فيه الشجب والتنديد والاستنكار، أما اليوم فهم لا يشجبون سوى المقاومة، ولا ينددون بغير الحرية والإرادة، ولا يستنكرون جرائم العدو قدر استنكارهم مواجهة العدو نفسه.
(غزة فلسطين) حملت على كاهل أبنائها الأبطال مهمة المواجهة مع العدو الذي ما انفك يمارس إجرامه بحق الشعب الفلسطيني منذ أكثر من سبعين سنة، منذ وطأت عصابات الصهاينة أرض فلسطين بدعم الانجليز الذين سهلوا احتلال فلسطين، وحاربوا الشعب الفلسطيني بكل ما أوتوا من قوة ومكر وخديعة.
في غزة ترتفع أعداد الشهداء والجرحى، المباني المدمرة والأحياء السكنية التي يسويها الإجرام الصهيوني بالأرض، لترتفع بذلك غزة قدراً ومقدرة، تتهاوى مكانة كل من خذل غزة، كل من تآمر على غزة، كل من تواطأ في حرب إبادة تستهدف غزة ومقاومتها وفلسطين وقضيتها.
أكثر من أربعين ألف شهيد/شاهد على ما جرى ويجري منذ نحو عشرة أشهر، سالت دماؤهم الزكية على الأرض الطاهرة تخليداً لإرادة الشعب الأبي المقاوم.
أكثر من أربعين ألف شهادة تؤكد حق الفلسطينيين في فلسطين، وأن الاحتلال – مهما بلغت جرائمه وقوته- زائلٌ لا محالة، فالأرض تعرف أبناءها، شهداء وجرحى ومفقودين، أو مقاومين ثابتين ومرابطين، لن ترهبهم قوة الجيش المقهور، وقد قيل يوماً إنه لا يُقهر، ولن يفت في عضدهم خذلان المتخاذلين ولا ما نزل بهم من البلاء.
في غزة كان الشهداء يودعون شهداء آخرين، وفي رحاب الخلود كان السابقون يستقبلون القادمين من بعدهم، بعدما اتسعت فضاءات الجنة للأرواح الطائرة إليها من غزة، من بين الركام والخراب والقصف الذي لا يتوقف.
ولا يمكن فصل هذه الحرب عن سياقها الجغرافي والتاريخي الفلسطيني، فالشعب المقاوم يخوض المعركة مع الاحتلال الذي حاولت الدول الغربية زراعته في أرض فلسطين، ليكون طليعة مشروعها الاستعماري بشكله الحديث، ورأس حربتها في المواجهات التي يشهدها الشرق الأوسط، وكان ذلك على حساب الفلسطينيين الذين أجبرتهم العصابات الصهيونية على ترك أرضهم ومنازلهم هرباً من حرب الإبادة التي شنتها عصابات الاحتلال منذ العام 1948، عام النكبة الذي أعلنت فيه تلك العصابات قيام دولتها الإرهابية.
تلاحقت الجرائم والمذابح الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني، وتعرضت غزة وحدها لسلسلة طويلة من الحروب، فضلاً عن الحصار المفروض عليها منذ نحو عشرين سنة، وقد أعرب الهالك رابين عن أمنية رفاقه الصهاينة عندما تمنى أن يستيقظ يوما وقد ابتلع البحر غزة، لكن ما حدث ذات صباح أن جنديا إسرائيلياً نفذ تعليم التوراة وأطلق الرصاص على صدر رابين، سقط رابين مضرجاً بدمه وأمنيته وخيبته، وبقيت غزة شامخة وصامدة تتصدى لجيش الصهاينة وزعمائه الذين جاؤوا بعد رابين، ولم يحصدوا سوى الخيبة والخسران، فالأرض تبقى ملك أهلها، وليس للص سوى الطرد والعقاب.