إبراهيم غرايبة
كاتب أردني
ثمة إجماع تقريباً بأنّ ظاهرة التطرف مرشحة للبقاء والنمو، لسبب واضح؛ هو أنّها تحظى بقواعد اجتماعية واسعة، وبمصادر آمنة للتجنيد والحشد والتمويل، وأنّها حال لا يمكن مواجهتها أمنياً أو فكرياً، وبطبيعة الحال؛ فإنّ العنف والكراهية على مدى التاريخ والجغرافيا، هما حال اجتماعية تنشئ أيديولوجيتها الملائمة لها، ومن ثم فإنّ الحلّ لتغيير أفكار الناس يستدعي تغيير واقعهم.
تتحوّل نسبة كبرى من برامج وسياسات “مواجهة التطرف” إلى عمليات معزولة تثير السخرية، وفي الوقت نفسه، يبدو واضحاً في الشأن العام والمتابعة، أنّ التطرف منتشر ومتمكن في الحياة اليومية والأفكار والمعتقدات والمشاعر والسياسات والممارسات، لكن لا يبدو ثمة اعتراف بوجود التطرف والكراهية بيننا، ولا رغبة بإجراء جدل وطني عام وصريح، برامج الانتخابات، على سبيل المثال، لا ترى التطرف موضوعاً يستحق التفكير والجدل وتقديم المرشحين لأنفسهم أمام الناخبين.
هكذا، فإنّ الإرهاب أساساً، هو نوع من أنواع الصراع الاجتماعي، وهذا يعني بالضرورة أنّه باقٍ ومستمرّ على نحو دائم، وأنّه يأخذ حالات وأشكالاً متعددة، وأنّ الأيديولوجيا، سواء كانت دينية أو قومية أو وطنية، ليست جزءاً أصلياً أو بنيوياً في هذا الصراع، لكنّه مورد إضافي يتمّ استحضاره وتوظيفه في الصراع، ومن ثمّ فإنّ مواجهة الإرهاب والتطرف والتوظيف غير الصحيح للدين، والخروج على الدولة والقانون باسم الدين، يجب أن تقوم في شكل رئيس على الفصل بين الدين – التدين، والصراع القائم، وضرورة النظر إلى الصراع باعتباره اجتماعياً واقتصادياً.
السياسات الاجتماعية والاقتصادية الإصلاحية، تفشل أو تتعثر، إن لم تصحبها سياسات باتجاه الفصل بين الدين والصراع الاجتماعي والسياسي والأزمات الاجتماعية والثقافية القائمة، وفي ذلك فقط يمكن إضعاف المتطرفين والخارجين على الدولة والقانون باسم الدين وعزلهم، ووضع الدين والتدين في السياق الصحيح لسياسات الدولة والمجتمع، وأهدافهما في الإصلاح والارتقاء بالنفس والتماسك الاجتماعي، وإزالة الحواجز التي تعوق اندماج المواطنين في برامج الدولة والمجتمع وتعزيز مشاركتهم على أساس قضاياهم وأولوياتهم الأساسية، وكما هي في جميع الدول والمجتمعات، والقائمة على تحسين مستوى الحياة والرفاه والتقدم الاقتصادي والاجتماعي، وحصر الصراع السياسي والاجتماعي في قضيته المنشئة، ووقف حلقات الشرّ التي تطور الخلاف والصراع إلى سلسلة من الصراعات المدمرة، والمختلفة عن القضية الأصلية المنشئة هذا الصراع، وتطوير الخلاف بين الحكومات والمعارضين، أو بين الدولة والمجتمعات أو طبقات أو فئات اجتماعية معينة، إلى خلاف سلمي محدّد يستخدم في تسويته المبادئ العامة والسلمية من التأثير والجدال والحوار والرأي العام والإعلام.
هناك كثيرون يؤيدون التطرف، ينطلقون من أسس غير موضوعية أو غير متصلة مباشرة بالتدين والفهم المتطرف للدين مثل؛ البحث عن المعنى والجدوى والشعور بالخواء والندم، الشعور بالتهميش الاقتصادي والاجتماعي بالنسبة إلى أفراد أو فئات اجتماعية أو مهنية أو اقتصادية، أو الشعور بعدم العدالة الاجتماعية والاقتصادية.
وبالنظر إلى التطرف على أنّه مؤشر اجتماعي، فإنّ ذلك يساعد في تصحيح السياسات والبرامج الاجتماعية والثقافية ومراقبتها ومراجعتها، والتأكّد من أنّها تخدم تطلعات المواطنين عامة، والشباب خاصة، إلى المعنى والجدوى، وتشجعهم على الاندماج الاجتماعي والمشاركة الاقتصادية والعامة وبناء أدوات سلمية وإيجابية في العمل والتأثير، وبذلك فإنّه يمكن التأكد أيضاً من أنّ المنظومات الاقتصادية والسياسية، وإدارة الموارد والإنفاق، تخدم الهدف الأساسي لها، وهو التقدم والتنمية، ولعلّه يمكن في المحصلة أن نكوّن مثل هذا العالم القائم على مجتمعات شريكة ومستقلة، تتحمل مسؤوليتها وتواجه بنفسها تحدياتها التي لا يمكن الدولة أو الشركات أن تؤديها بالنيابة عنها.
لقد صار من فضول القول، إنّ الفكر الديني في الردّ على المتطرفين، لا يفيد إلا غير المتطرفين، أما المتطرفون، فإنّهم لم ينشئوا مواقفهم بناء على فهم ديني خالص أو مستقل، أو اجتهاد ومحاولة للبحث والتفكير في التوجيه الديني، لكنّهم اختاروا من النصوص والنماذج الدينية ما يشبههم ويلائم اتجاهاتهم وحالتهم النفسية والاجتماعية.
وتصعد اليوم، اتجاهات علمية تنظر إلى التطرف الديني والعنف، على أنه حالة كراهية تستحضر النصوص الدينية، لكن جذور هذه الحالة يمكن ملاحظتها في نزعات العنف والكراهية، والتسامح، والخضوع، والاكتئاب، والتمرد، والاحتجاج، والعزلة، والمشاركة، والانقياد، والمغامرة، والنزعة إلى الانتحار، والقتل، والإدمان، والسادية (الاستمتاع بالإيذاء)، والمازوشية (الاستمتاع بتلقي الإيذاء)، أو أمراض واضطرابات نفسية وعقلية وسلوكية، مثل؛ الانفصام والنرجسية والعدوانية والقلق والتوهم.
وأسوأ ما تقع فيه عمليات مواجهة التطرف الكراهية والعنف المنتسبة إلى الدين، الاعتقاد بأنّها عمليات استجابة ميكانيكية، أو تلقائية، لنصوص دينية يساء فهمها، أو تفهم فهماً صحيحاً أو خاطئاً؛ ذلك أنّها نصوص موجودة منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام، ويفترض أن تؤدي إلى حالات متشابهة لدى أفراد مؤمنين بهذه النصوص، وفي مجتمعات وبلاد لا يحدث فيها تطرف وإرهاب، لكنّ أهلها يؤمنون بالنصوص الدينية نفسها التي يؤمن بها المتطرفون والكارهون. وليس المقصود بالتأكيد إعفاء فهم النصوص من المسؤولية عن الكراهية، لكن التّأكيد على أنه فهم جاء منسجماً مع اتجاهات شخصية ونفسية. فالمعتقدات والأيديولوجيات ليست عمليات عقلية أو ناشئة عن مجهود علمي وفكري، وإن كانت تستند إلى تراث فكري وفلسفي أحياناً، لكنّ معتقداتنا في الحقيقة تعكس شخصياتنا، أو هي جزء من هويتنا وميولنا؛ نحن ننحاز إلى المعتقدات والتأويلات التي تشبهنا.
مؤكّد، في طبيعة الحال، أنّ الذين يعيشون حالات من الاكتئاب والنزعة إلى الانتحار، والتهميش، والعزلة، والشعور بالظلم، مرشحون تلقائياً لأن يكونوا متطرفين قساة؛ فالذي يقسو على نفسه، أو المقرّبين إليه، سيكون أكثر استعداداً للقسوة على الآخرين، والقسوة بما هي خلاصة التطرف والكراهية، تعكس في حالتها الانتقائية الفشل، والمرض العقلي في حالتها الشاملة.
لكن حين يمتلك هذا المرض العقلي تأييداً اجتماعياً كاسحاً، كما يحدث كثيراً في القوميات والأيديولوجيات، فإنّ الوباء يتحول إلى أصل أو سلوك سائد يصعب الخروج عليه، وربما يكون قريباً من ذلك ما يحدث اليوم في موجة التعصب الديني التي تحولت إلى كراهية شاملة لفئات ومذاهب وطوائف، وأنشأت عنفاً شاملاً ومجازر وتهجيراً بلا رحمة أو تعاطف، كما يحدث في سوريا والعراق، وكما حدث من قبل في رواندا وبوروندي والبلقان وألمانيا تحت حكم النازية.
إنّ بناء المعتقدات ليس قائماً على عمليات علمية عقلانية؛ فالعلم والعقل لا ينشئان أيديولوجيا، لكنّها أفكار تكتسب صلابة وإيماناً عميقاً، بسبب اتجاهاتنا وميولنا التي نملكها بالفعل؛ إنّها (المعتقدات) مثلنا، ونحن عموماً، نفضل ما يماثلنا، خصوصاً أنّ المعتقدات تصبح مكونات من هويتنا، وبذلك، فإنّها تميزنا وتنشئ موقفاً من الآخر الذي لا يعتقد مثلنا، فيصبح ليس منا، أو مختلفاً عنا، أو عدواً أو مثيراً للاشمئزاز، ثمّ نطور موقفنا منه (الآخر)، أو اعتقادنا عنه، بأنّه يريد إيذاءنا، ومن ثم تجب إزاحته، أو إقصاؤه، أو إخفاؤه من الوجود، فتبدو عمليات الإقصاء والإبادة كأنّها دفاع ضروري عن الذات، أو هي تعكس الخوف الوهمي على وجود الذات ومصيرها.
نقلآ عن حفريات