كريم شفيق
كاتب مصري
عمدت التيارات الإسلامية بمختلف مرجعياتها إلى بناء صورة تلفيقية، حول طبيعة الصراعات السلطوية التي يخوضونها، وماهية الدور الذي تضطلع به بغية تمديد نفوذها السياسي والبراغماتي؛ وذلك من خلال تصدير رؤية شمولية، حول عناصر وأطراف الصراع ومواقعهم وتوصيفاتهم؛ حيث تستعير مسمياتها من التاريخ الإسلامي، للحصول على المسوغ الديني لشرعية القتال وسفك الدماء وأهدافهم المقدسة.
ودرجت تلك التيارات في أدبياتها وخطابها العقيدي على تثبيت موقع وظيفي للدين، وتحويله إلى ممارسة أيدولوجية لغاية نفعية محددة، وتصفية دوره التعبدي وتجربته الإيمانية الأخلاقية وجوهره الروحاني.
فيما حشدت الجماعات الإسلامية الرأسمال الرمزي للدين، للتستر خلفه، وتوظيفه للتماهي مع الإسلام، في لحظته التدشينية الأولى وفصوله التاريخية المتعاقبة؛ حيث مواجهة التهميش والقمع والتعسف من خصوم “الدعوة”، حتى الظفر بالنصر؛ في محاولة تهدف إلى خلق حالة تطابق قسري، مع الوضع السياسي والدعوي للإسلاميين، بالإضافة إلى إيجاد صلة عضوية مبتسرة بين الحالتين، بالرغم من غياب الشروط التاريخية والمعرفية وتناقضها وتزييف الوقائع.
ذلك الأمر يكون بمقدوره دوماً إيجاد حالة تعويضية للإسلاميين ومبرر لمظلوميتهم، من خلال مصادرة هذا الميراث المادي والمعنوي للإسلام، واستعادته في سياقات مغايرة للتماثل معه، والتحقق داخله، وتأبيد صراعاتها عبر ثنائية دار الكفر والإيمان وحزب الله وحزب الشيطان.
يمكن رصد تعاطي التيارات الإسلامية مع وقائع مختلفة في التاريخ ومراهنتها مع أحداث في الحاضر، كمثل واقعة استغلال حديث الفرقة الناجية الذي سرى تفسيره منذ الدولة الأموية، وتحديداً، عقب توريث الخلافة من معاوية إلى ابنه يزيد، وهو ما يستغلونه في طرح ضرورة تاريخية وحتمية لتنظيماتهم، التي تتشكل من خلالها الهوية الدينية الخالصة للمنتمين لها واعتبارها بوابة العبور للإيمان الكامل، من خلال مفهوم “العصبة المؤمنة”.
العمليات الجهادية التي يقوم بتبنيها الإسلاميون داخل أوطانهم، ترتد في الواقع إلى قراءة تأويلية ومتعسفة للنص الديني، من جهة، لتشريع آيات دموية تحرض على القتال والإرهاب، بدون فهم ملابساتها التاريخية، وتقديم رؤية تمجيدية للحروب “الغزوات” الإسلامية، من جهة أخرى، باعتبارها ركناً رئيسياً في الدين، وهدفاً أخلاقياً، وهو ما أدى إلى “عسكرة” الإسلام، وتكوين ميلشيات وجيوش تنظيمية تنتحل اسمها وبناء دويلات “طائفية”.
وأضحت عقيدة العنف في صورتها الانتقامية والوحشية، كوسيلة لتحرير الأرض الإسلامية من “الطاغوت” كما يزعم الإسلاميون، بينما دأبوا في البحث عن دار الهجرة لتأسيس المجتمع الإسلامي كما في حالته الأولى بالمدينة، بعد تكفيرهم للحاكم والمحكومين، لتكتمل أركان الإيمان بلا نقصان، والتي تحققت في أفغانستان أثناء الحرب ضد الاتحاد السوفياتي، والشحن الديني والطائفي عبر تسجيلات خطب الشيخ عبد الله عزام وأحاديثه عن معجزات المجاهدين في حروبهم ضد الكفار، وتتوالى مع ولادات التنظيمات الجهادية بشكل مطرد في صورتها الداعشية.
لا يمكن بحال وصم العنف بهوية دينية وإسلامية، بدون التحقق من الأبعاد الاقتصادية والسياسية التي استدعت وجودها في تاريخها الخاص والمحلي؛ لأن العنف مكون رئيسي في بنية كل سلطة، ومحاولة مقاربتها علمياً والممارسات التي حفلت بها في تاريخ معين، لا يخرج عن إطار الثقافة العامة والمستوى التاريخي والحضاري في تلك اللحظة، وبالتالي، فإنّ الحروب والصراعات السياسية في التاريخ الإسلامي تدخل في خضم هذه العوامل ولا تنحصر في نصوص من القرآن والسنة تمنحها السند والشرعية.
كما أنّ الدولة التي أسسها النبي لم تكن امتثالاً لأمر ديني، فلا يوجد في الوحي نصوص تقول بوجوب بناء كيان سياسي أو إشارة إلى وصف الرسول بـ”قائد عسكري”، وتعتبر الحوادث السياسية والعسكرية، من حروب ومعاهدات، أموراً اقتضاها تطور الجماعة المسلمة في التاريخ، وانتقال حيزها المكاني، وتبعات ذلك من تعرضها إلى تهديدات عسكرية وجدل عقائدي مع أصحاب الديانات الأخرى؛ حيث فرضت شروط الواقع وقتها حسمه بالصورة المناسبة والأدوات المتاحة، لكنها تظل داخل الحيز المدني والسلوك غير الديني للرسول، الذي لم يفرضه الوحي في لحظة من اللحظات.
ففي غزوة بدر، قد سبق الرسول قريشاً إلى موضع الماء، ونزل فيه بالجيش، فقال له الصحابي الحباب بن المنذر بن الجموح: يا رسول الله، أهذا منزل أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه، ولا أن نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال رسول الله: “بل هو الرأي والحرب والمكيدة”. قال: يا رسول الله، إن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم، فإني أعرف غزارة مائه وكثرته، فننزله، ثم نغور ما عداها من القلب، فنشرب ولا يشربون. فقال لهم: “لقد أشرت بالرأي”.
فتظل المواقف التي اتخذها الرسول في إطار الدولة التي أنشأها في المدينة، ترتبط في تشريعاتها الخاصة بزمان ومكان تتعين داخله، وموجهة لأفراد بعينهم، وليست أحكاماً عامة، إنما ترتبط بالمصلحة العامة.
فإنّ بناء مجتمع الكراهية من خلال شطره بسلاح “الولاء والبراء” إلى قسمين؛ أحدهما مؤمن وآخر كافر، يصنع ولادات متكررة لفاشية تكفيرية، يضحى فيها القتل بتفويض إلهي، وتأبيده من خلال القرآن، الذي يتحول من وظيفته التعبدية إلى أيدولوجيا مؤسسة للقهر الديني والسياسي.
نقلآ عن حفريات