إبراهيم غرايبة
كاتب أردني
تشكّلت جاذبية الإسلام السياسي على المعنى الذي تمنحه لأعضائها وأنصارها ومؤيديها؛ ففي هذا الشعور بالتميز والاستعلاء تجمعت الجماهير والأنصار مزهوّة بالمعنى والاختلاف، الشعور أنّها الأفضل وأنّها الإسلام الصحيح، لكن ما حدث بالفعل؛ هو استخدام المعنى العام وإضفاء الدين والمعنى الديني عليه، وهكذا فقد كان التزييف في منح الاجتماع الإنساني المتغير المنبثق عن تفاعل الناس مع حياتهم ومواردهم، بما هي عملية واقعية، أبعاداً تبدو هبطت من السماء، كأنّها وعد خارجي معجز ومستقل عن قدرة الناس وحياتهم الواقعية.
وفي ذلك، عطّلت الجماعات المقدّس أن يعمل في مجاله الأصلي، وهو معرفة الله تعالى، والارتقاء بالذات وفق مثال الله تعالى؛ كالرحمة والعدل والجمال والمحبة، ثم دفعت به (المقدّس) إلى السياسة والاقتصاد والتجارة والعمل، بعيداً عن المعنى الديني الأصلي لهذه الحقول والمجالات، بما هي إنسانية واقعية تستجيب لقيم الاجتماع الإنساني والازدهار والتقدم، وتجنّب الشرور المصاحبة له كالظلم والكراهية.
إنّ الفعل الديني هو المقاربة بين الرموز والمرموز إليه، وفي الفضاء العام تكون هذه الرموز فكرة مثالية أو إطاراً يقترب من، أو يكاد يكون مرموزاً إليه، وليس رمزاً، هكذا فإنّ استعارة الرموز الدينية، بما هي في ابتدائها أداة أو وسيلة لفهم ما ترمز إليه، لتظلّ رمزاً عملياً في الحياة اليومية لا يجعلها تفعل فعلها الأصلي؛ لأنّها، ببساطة، في هذه الحالة لا تؤدي إلى الله تعالى أو إلى معرفة الله تعالى، لكنّها يفترض أن تكون مثالاً يوجه الحياة اليومية قدر الإمكان، أو مشروعية عليا تجعل الاجتهاد الإنساني منسجماً مع الدين، أو لا يتناقض معه.
إنّ الفعل الديني يتحول في الفضاء العام إلى خطاب ثقافي؛ أي نظام من المفاهيم يعبّر عنها بأشكال رمزية، ويتواصل الناس بهذه الأشكال، ويديمون ويطورون معرفتهم حول الحياة، ومواقفهم منها، وتعمل الرموز المقدسة في تركيب روح الجماعة أو الحقيقة المميزة لها في الأخلاق والجمال، ونظرتهم إلى العالم؛ ما الفرق بين هذا المفهوم والإسلام السياسي؟
يكوّن النظام الثقافي رموزاً توجيهية عامة يملكها جميع المتدينين على اختلاف مستويات تدينهم، والمسافة التي يتخذونها من الدين، ولا يملك أحد سلطة تنظيمية واضحة على هذه الرموز والأفكار والمفاهيم حتى المؤسسة الدينية والسياسية، لا تملك سلطة مادية أو قانونية أو تنظيمية عليها، ولا تحولها بالطبع إلى مؤسسات وتشريعات منظمة ومنضبطة، فلم يحدث مثل ذلك في تاريخ الأمم إلا مرات قليلة؛ كانت كارثة على المجتمعات والدول، وأدّت إلى حروب وصراعات طاحنة وكراهية تذيب الصخر، كما حدث عندما حاول الخليفة العباسي المأمون أن يفرض العقلانية على الناس لفهم الدين، ورغم تقدمية فكرته وهدفه؛ فقد حدثت فتنة عظيمة لم تتوقف مفاعيلها حتى اليوم، وفي المقابل؛ فإنّ النقلية المعارضة للعقلانية فرضت على الناس تطبيقات وأحكاماً أشدّ فتنة.
لكنّ المؤسسة السياسية والدينية اقتصر دورها المؤسسي والقانوني على تنظيم الشؤون الدينية الواضحة والأساسية؛ كالصلاة، والمواقيت، والحجّ، أو تطبيق القوانين والأحكام المحدَّدة بالنص الديني؛ كالأحوال الشخصية، والمواريث، والأسرة، وتركت الفضاء الديني العام للمجتمعات والأفراد تستلهمه بلا سلطان عليها، ذلك أنّ امتداد السلطة إلى أرواح الناس وضمائرهم ينشئ أفظع أنواع القهر، أو اندفاعاً خطيراً ومدمّراً مشحوناً بالمعنى الديني الفائض لقضايا واتجاهات؛ بل وأزمات إنسانية يجب أن تكون غير يقينية وقابلة للتسوية.
لكنّ جماعات الإسلام السياسي، بما هي انتقائية واختيارية ومتخففة من الشعور العام بالمسؤولية تجاه المجتمعات والعلاقات الدولية والعقد الاجتماعي، مضت بأتباعها ومؤيديها القابلين والمتحمسين لفكرة التنظيم العملي والمؤسسي للرموز والقيم الدينية العامة، لتكون جماعات؛ بل ومجتمعات متميزة ومتماسكة، تحوّل المفاهيم والأفكار العامة إلى أنظمة تفصيلية محددة ومتماسكة وواضحة؛ الحكم الإسلامي، والاقتصاد الإسلامي، واللباس الإسلامي، والإعلام الإسلامي، والفنّ الإسلامي، والشخصية الإسلامية، …إلخ. لقد حوّلت الرموز المفتوحة اللانهائية إلى أنظمة وأدلّة إرشادية مفصلة ومحددة، وصارت هذه المقولات والأفكار والقيم “الرخوة” صلبة ومتماسكة ومنظمة ومحددة، ولم يكن يراد لها ذلك ابتداءً، ولو كان الله يريد للمؤمنين أن يتبعوا أو يسلكوا في الحياة اليومية، وفي السياسة والأسواق والاقتصاد والاجتماع والفنون، على النحو الذي تقترحه جماعات الإسلام السياسي، لرأينا في القرآن الكريم تشريعات وأحكاماً مفصلة ودقيقة، كما حصل في الديون والمواريث والطلاق والعقوبات، على سبيل المثال.
وبالطبع؛ فإنّ الدين؛ أيّ دين، قادر، كما يصفه كليفود غيرتز، على أن يحوّل نظامه الرمزي لينشئ حالات نفسية وحوافز قوية وشاملة ودائمة في الناس عن طريق صياغة مفاهيم عن نظام عام للوجود، وإضفاء هالة واقعية على هذه المفهومات؛ حيث تبدو هذه الحالات النفسية والحوافز واقعية بشكل فريد.
لقد أوقعنا هذا التزييف للمعنى في عالم الإسلام في متوالية من الكوارث الخطيرة جداً، أولها: تغيير الدين في فهمه ومساره وفعله الأصلي، ليتحول إلى منظومة عملية تفصيلية؛ هي إنسانية في حقيقتها، لكنّها تُفهم وتُقدم وتُفرض على أنّها من عند الله، وما هي من عند الله، وتعالى الله عمّا يقولون علوّاً كبيراً.
وثانيها: أنّها أنشأت جماعات ومجتمعات منفصلة بذاتها في أفكاره وقيمها ومصالحها، وتتحول بالتدريج إلى طوائف جديدة، أو أحزمة اجتماعية مختلفة في الهوامش، أو في الطبقات الغنية، وأنشأت انقساماً اجتماعياً حادّاً وعميقاً ومشحوناً بالشعور بالتميز والاشمئزاز من الآخر، واعتباره غير مسلم، ما يبيح القتل والكراهية والغشّ والظلم على الآخرين؛ بل واستعبادهم وبيعهم رقيقاً وسبايا.
نقلآ عن حفريات