كريتر نت /
تسعى بغداد بصعوبة لانتهاج سياسة تضعها على مسافة واحدة من كل العواصم الخارجية، على النحو الذي يحفظ مصالح العراق ويقيه شرور الاستقطابات الخارجية الخطيرة، لاسيما داخل منطقة الشرق الأوسط.
بعد سنوات من الصراع، يسعى العراق لاستعادة دور قيادي، لكن ضمن مناورة جديدة تتأسس على فكرة الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع المحيط العربي والولايات المتحدة وإيران، الأمر الذي يبدو مشكوكا في نجاحه حيث يصعب الحفاظ على الحياد داخل بيئة متوترة تطالب العراق باتخاذ مواقف لصالح هذا الطرف أو ذاك.
ولا شكّ في أن العراق يعيش اليوم مرحلة انفتاح لا تقارن بمراحل العزلة التي عاشها بعد غزو عام 2003، وما تلاه من سنوات حجبته خلالها إيران بعباءتها، مستغلة موقفا عربيا نأى بنفسه عن العراق. اليوم، تطل بوادر تغيير من الجانبين العراقي كما العربي.
يبدو العالم العربي منفتحا على العراق، فيما زيارات المسؤولين العراقيين للمحيط العربي نشطة ومتعددة. وتبدو مناسبة إعادة افتتاح القنصلية السعودية في بغداد هذا الشهر، لأول مرة منذ ما يقرب من 30 عاما، علامة على انبلاج حقبة جديدة يراد منها إسقاط صورة الحرب والعنف التي وسمت سمعة العراق، ودفع البلاد نحو الانخراط التام مع دول العالم.
ويمثل الرئيس العراقي برهم صالح واجهة تسعى لفتح أبواب العراق أمام العالم. وهو، ومنذ تبوئه لمنصبه، يطرق أبواب المحيط والعالم متحريا نقل بلاده من طور الانغلاق إلى آخر يأخذ مسافة حذرة من إيران دون أن يمثل ذلك ابتعادا عن طهران.
وفي تصريحاته لـ”العرب”، في 3 أبريل الحالي، يقول الرئيس العراقي “نسعى لأن يكون العراق ساحة تلاقي المصالح الدولية والإقليمية وفق ما تقتضيه مصلحة وسيادة العراق. هذا قدره الجغرافي والتاريخي وفيه مصلحة العراق وشعبه بالدرجة الأساس. هذا ما يفرضه الموقع الجيوسياسي للعراق، وما تفرضه الحقائق والتجارب التاريخية أيضا. فالعراق بجواره الإسلامي وبعمقه وامتداده العربي، والتنوع الثقافي والاجتماعي الذي يتميز به، تؤهله لأن يكون محطة التقاء وتفاهم مشترك، وتمكّنه في الوقت ذاته من لعب دور محوري في المنطقة يعيد له دوره القيادي والحيوي بما يحقق مصالحه وأمنه القومي”.
طي صفحة الحرب
يود العراق أن يطوي صفحة الحرب ضد تنظيم داعش التي استغرقت 3 سنوات. المهمة ليست يسيرة، فتوقف تلك الحرب وتحولها إلى عمليات أمنية ضد فلول التنظيم الإرهابي، يضع الحكم العراقي أمام استحقاق إزالة الدمار والشروع بورش إعادة الإعمار وإرجاع عشرات الآلاف من النازحين إلى ديارهم.
غير أن انتهاء الحرب ضد تنظيم داعش يعيد العراق إلى نقاش قديم حول كيفية التخلّص من ظاهرة الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران. والمشكلة أن هذه الميليشيات ازدهرت وقويت ومنحتها الحكومة والبرلمان العراقيان شرعية تحت مسمى “قوات الحشد الشعبي”، حين انخرطت في القتال ضد تنظيم داعش إلى جانب الجيش العراقي وقواه الأمنية.
وباتت هذه الظاهرة تمثل تحديا للسلطة المركزية للحكومة، لاسيما وأن ولاءها الأساسي هو لنظام ولاية الفقيه في إيران، وأن خياراتها قد تصطدم بخيارات بغداد في مجال السياسة الخارجية الجديدة، خصوصا في مسألة الانفتاح على السعودية.
والمشكلة أن اقتصاد العراق يعاني من تصدعات بنيوية مقلقة على الرغم من أنه بلد وفير الثروات مصدِّر للنفط. بيد أن ظاهرة الفساد المستشري والتي تنسحب على كل الطبقة السياسية التي حكمت البلاد منذ عام 2003 تحول دون تمتع العراق بموارده وثرواته على نحو يرفع من مستويات التنمية لديه.
ولا يمكن للعراق أن يستعيد دورا حيويا داخل العالم العربي دون أن يعالج الاختلالات الداخلية، وخصوصا في ملفات الاقتصاد. وتقول رندا سليم زميلة معهد الشرق الأوسط ومقره واشنطن، إن “طريق العراق لاستعادة دور قيادي في العالم العربي سيعتمد على مدى نجاح قادته في مواجهة التحديات الأمنية والاقتصادية في الداخل”.
يتلقى العراق مباشرة التداعيات المتعلقة بقرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب سحب بلاده من الاتفاق النووي مع إيران. وتحوّل التوتر بين واشنطن وطهران، وخصوصا إثر فرض الولايات المتحدة عقوبات على إيران والمتعاملين معها، إلى جدل عراقي داخلي حول الكيفية التي ستقارب بها بغداد هذه المعضلة ضمن تصور يقول في العراق إن البلد يحتاج إلى الحفاظ على توازن دقيق مع البلدين، حيث تتمتع بغداد بعلاقات قوية مع واشنطن وطهران.
الخصوصية العراقية
يلفت الخبراء إلى الخصوصية العراقية وتعقد حيثياتها. يقع البلد على خط الصدع بين إيران الشيعية والعالم العربي الذي تقطنه أغلبية سنية. ويتجاور العراق المملكة العربية السعودية وإيران. وكانت العلاقات العراقية فاترة بشكل خاص مع الرياض، التي قطعت علاقاتها مع بغداد في أعقاب غزو صدام حسين للكويت في عام 1990 ولم تستعد أبدا لأن العراق قد تم جره بشكل متزايد إلى مدار إيران في السنوات اللاحقة.
وتتصارع ضريبة الجغرافيا مع ضريبة التاريخ. ويقف العراق على مفترق بين الحاجة لمقاربة علاقاته الخارجية دون أن يقامر بهويته العربية وانتمائه التاريخي إلى العالم العربي. ومن أجل الانخراط في ورشة الإعمار والدفع بالاقتصاد والاستثمار لإعادة بناء المدن العراقية، تحتاج بغداد إلى طرق أبواب المنطقة، لاسيما دول الخليج الغنية بالنفط والغاز، بما في ذلك المملكة العربية السعودية.
ويود العراق الاقتراب من محيطه العربي دون أن يعتبر ابتعادا عن إيران. وتملك طهران نفوذا سياسيا وعسكريا داخل الطبقة السياسية العراقية، لاسيما لدى الأحزاب الدينية الشيعية والميليشيات المسلحة.
ويفسر الرئيس برهم صالح علاقة العراق بإيران من بوابة الواقع الجغرافي بقوله إن “إيران جارة لنا وتربطنا وإياها وشائج ثقافية واجتماعية وحدود مشتركة حوالي 1400 كم مما يستوجب مجموعة مصالح أمنية واقتصادية وسياسية مشتركة بين البلدين. مصلحتنا تكمن في الدعوة إلى تخفيف التوتر في المنطقة وتأسيس منظومة علاقات بين دول المنطقة مستندة إلى مصالحنا الاقتصادية والأمنية المشتركة”.
وإدراكا من الرياض لضرورة مواجهة النفوذ الإيراني المتزايد في المنطقة في مرحلة ما بعد داعش، سعى المسؤولون السعوديون إلى توثيق العلاقات مع العراق، وأرسلوا مؤخرا وفدا رفيع المستوى إلى بغداد حيث تم افتتاح قنصلية المملكة.
وجاءت زيارة الوفد السعودي في أعقاب زيارة قام بها الرئيس الإيراني حسن روحاني إلى بغداد الشهر الماضي، وقع خلالها الجانبان على عدة اتفاقيات تهدف إلى تعزيز العلاقات الثنائية. وخلال الشهر الجاري سافر رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي في أول رحلة خارجية له إلى القاهرة للقاء الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي. وانضم إليهما العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني في قمة ثلاثية حول تدابير تعزيز التعاون الاقتصادي. والأسبوع الماضي أعلن عبدالمهدي أنه سيزور المملكة العربية السعودية قريبا لتوقيع العديد من الاتفاقيات. حتى أن البعض يشير إلى أن العراق يمكن أن يلعب دور الوساطة بين الأعداء الإقليميين.
وقال رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري، في زيارة لبغداد في وقت سابق من هذا الشهر، إن العراق في وضع فريد يلعب دورا إقليميا مهما “في المصالحة بين المملكة العربية السعودية وجمهورية إيران الإسلامية”، لكن هل يتمتع العراق بالرشاقة والكفاءة اللتين تمكنانه من لعب دور فاعل داخل المنطقة العربية؟ لا يبدو أن الجواب يسير.
وبالمقابل، يقول واثق الهاشمي، وهو محلل سياسي عراقي، إنها فرصة للعراق ليصبح مرة أخرى لاعبا إقليميا مهما، ولكن لكي يحدث ذلك، يحتاج السياسيون العراقيون إلى “وضع البلد قبل الطائفة والعمل كرجال دولة”، وهو أمر يقول إن لديهم مشكلة في القيام به لفترة طويلة.
وتستبعد مصادر دبلوماسية عربية أن يلعب العراق دور الوسيط بين طهران والرياض أو بين طهران وواشنطن، فالعراق أضعف من أن يضطلع بدور طموح على هذا المستوى، لكن لا شك في أن الانفتاح العربي على بغداد هدفه تعظيم الدور العربي في العراق في مسعى للضغط على الدور الإيراني في هذا البلد. ثم إن بغداد في سعيها لتطوير علاقاتها الخليجية العربية تتحرى رفع مستويات التعاون الاقتصادي لمصلحة العراق على نحو لا يتيح لبغداد المخاطرة في إظهار نفسها طرفا وسيطا محايدا قد يفهمه العرب انحيازا لإيران.
العراق يعيش اليوم مرحلة انفتاح لا تقارن بمراحل العزلة التي عاشها بعد غزو عام 2003، وما تلاه من سنوات حجبته خلالها إيران بعباءتها، مستغلة موقفا عربيا نأى بنفسه عن العراق
سيكون من السابق لأوانه الحديث عن تقدم يمكن أن تحرزه الأطراف التي ترغب في أن يضع العراق مسافة بينه وبين السياسة الإيرانية، ذلك الأمر مرتبط بما يمكن أن تؤدي إليه تداعيات الحظر الأميركي وبالأخص القرار المتعلق بتصنيف الحرس الثوري منظمة إرهابية.
ومن شأن الإجراءات المرتبطة بتنفيذ ذلك القرار أن تلحق ضررا كبيرا بالميليشيات التابعة لإيران والتي تسللت إلى مجلس النواب العراقي وصار في إمكانها أن تعيق أي خطوة تتخذها الحكومة في مجال الانفتاح على الجوار العربي.
ويستبعد الكاتب العراقي فاروق يوسف أن تمارس الولايات المتحدة ضغوطا على الحكومة العراقية في ما يتعلق بمسألة تشديد العقوبات على إيران، لكنه يستطرد موضحا أن تلك العقوبات في حد ذاتها ستكون بمثابة فرصة بالنسبة للعراقيين للانعتاق جزئيا من الهيمنة الإيرانية من خلال إضعاف مكانة الجناح الموالي لإيران بشكل كلي.
ويرى يوسف في ملف إعادة الإعمار الورقة التي يمكن أن ترفعها الإطراف التي تسعى إلى إعادة العراق إلى محيطه العربي، حيث لا يتوقع أن تقدم إيران شيئا في مجال إعادة الإعمار فيما عرضت دول خليجية وفي مقدمتها السعودية أن تقوم بدور رئيسي.