كريتر نت – متابعات
تشير الأرقام الرسمية والموثوقة إلى نقص مساهمة المرأة اليمنية الفعلي في الاقتصاد لأسباب لا علاقة لها بها، بل بطبيعة المجتمع المحافظ الذي يغلق الأبواب أمام النساء ويمنعهن من الانخراط في سوق العمل. لكن العديد من اليمنيات قررن كسر القيود واقتحام ميدان الشغل حيث لم تدع الحرب وتداعياتها الاقتصادية خيارا آخر للكثير منهن.
وفي خضم الحرب التي تقترب من عامها العاشر في اليمن بين الحوثيين والحكومة الشرعية، تبرز قصص نساء يكافحن لخلق مواطن شغل وتجاوز أزمة إنسانية تعتبر من أسوأ الأزمات في العالم. حيث أبقى النزاع المسلح الرجال مشغولين في جبهات القتال، فوجدت بعض النساء اليمنيات نوعا من المتنفس الاجتماعي والاقتصادي، النابع من الحاجة لإيجاد دخل لأنفسهن وعائلاتهن للبقاء على قيد الحياة.
وتقول الباحثة رندة العزير في تقرير لانتربرس، إن النساء يخضن مغامراتهن الخاصة في الأعمال التجارية الصغيرة منخفضة المخاطر. وتفتخر ذكرى أحمد الجابري، مديرة مؤسسة الأمل التنفيذية، بصعود المرأة في العديد من الحرف والقطاعات التجارية، رغم كونها “مرتبطة بأنماط محافظة أرساها المجتمع، كالخياطة، وتصفيف الشعر والتصفيف، والطبخ، وصناعة الحرف اليدوية، وإنتاج البخور والعطور، والملابس النسائية”.
غياب نظام متكامل وتمكيني
وأكدت نجاة جمعان، عميدة كلية التجارة والاقتصاد بجامعة صنعاء، وعميدة كلية المال والإدارة في جامعة الرشيد الذكية، وعضوة مجلس إدارة شركة جمعان للتجارة والاستثمار، أن المرأة اليمنية تدير مشاريع متنوعة، “لكنها لا تتمتع بمنظومة متكاملة تمكنها وتشجعها منذ طفولتها لتكون عنصرا فاعلا في العملية الاقتصادية والإنتاجية”.
وتمكنت بعض النساء اليمنيات من التحرر من القيود الثقافية ودخلن مجالات يهيمن عليها الذكور تقليديا، مثل البرمجة والهندسة. وقالت الجابري إن “النساء اتجهن إلى التجارة الإلكترونية والتسويق الإلكتروني والخدمات المهنية للاستشارات والتدريب في خضم الصراع المستمر”.
ويكمن الجانب المشرق الذي رأته سيدات الأعمال خلال وضع اليمن المظلم في وجودهن في سوق مغلق يعرفنه من الداخل إلى الخارج.
وذكرت إيمان المقطري، المؤسسة المشاركة ورئيسة منصة توظيف “مسند” التنفيذية، “يمكنني التحرك فيها وإيجاد حلول للعديد من مشاكلها. وتجذب الاعتراف العام وتحصد المزيد من الانتباه حين تحقق الأهداف بطريقة طبيعية أكثر”.
وتؤكد أهداف التنمية المستدامة للمساواة بين الجنسين في اليمن على الحاجة إلى “مشاركة المرأة الكاملة والفعالة وتكافؤ فرص القيادة على جميع مستويات صنع القرار في الحياة السياسية والاقتصادية والعامة”.
لكن الأرقام الرسمية والموثوقة تبرز نقص مدى مساهمة المرأة الفعلي في الاقتصاد. وذكرت جمعان أن “مشاركة المرأة محدودة جدا” وأنها “أفقر مقارنة بالرجل في اليمن”.
وتؤكد إحصاءات البنك الدولي تصريحها الذي يضع مشاركة المرأة في القوى العاملة عند 5.1 في المئة مقارنة بـ60.4 في المئة بالنسبة للرجال سنة 2023. وأشارت الدراسة نفسها إلى غياب إحصاءات رسمية للأسهم في الشركات. ولـ5.4 في المئة فقط من النساء حسابات مصرفية مقارنة بـ18.4 في المئة من الرجال.
العقبات ودعم وسائل التواصل الاجتماعي
وتبقى العقبات طويلة الأمد متجذرة في ثقافة المجتمع وتستمر عبر الأجيال. وتشمل الفصل بين الذكور والإناث وتقييد حركة النساء (وفرض “المُحْرَم”). وقد تكسر الاستثناءات الفردية بعض الحواجز مثلما تدل حالة المقطري التي تعدّ عائلتها أكثر انفتاحا. لكن جمعان أكدت أن الغالبية تواجه “سقفا زجاجيا يمنعها من الصعود والنمو والاستمرار وتحقيق الأرباح”.
كما فاقمت العقبات التي خلقتها الحرب هذا الوضع. وعاق إغلاق مطار صنعاء لفترة طويلة المشاركة في الاجتماعات والمؤتمرات. كما أكدت المقطري أن جنسيتها اليمنية منعتها من “دخول بلدان أخرى للمشاركة في الفرص المتاحة للنساء الأخريات في جميع أنحاء العالم، بما يقوض تكافؤ الفرص. وكانت خططي ومشاريعي ستحقق عائدا أكبر من مرتين إلى ثلاث مرات لو كنت في بلد آخر”.
وجاء حبل الإنقاذ البديل من وسائل التواصل الاجتماعي التي فتحت آفاقا لسيدات الأعمال اليمنيات للترويج لأعمالهن وعرضها. لكنه لم يحل مشكلة تعذر الوصول إلى المنطقة وإحجام المستثمرين الأجانب عن دخول السوق اليمنية الهشة والمتقلبة والتوسع فيها.
الحوافز متوفرة لكن المستقبل غامض
وأشارت الجابري إلى أن المجتمع المدني والمنظمات المانحة والقطاع المصرفي والحكومة تستثمر في “العديد من الحوافز والمبادرات وأشكال الدعم لسيدات الأعمال من خلال برامج التكوين وورش العمل والتمويل والقروض والشبكات المهنية والاستشارات”.
كما يلعب الاتحاد العام للغرف التجارية الصناعية اليمنية دورا مهما وبارزا في خضم الأزمة. وهو يدعم القطاع الاقتصادي والتجاري في البلاد.
واستفادت المقطري من برامج الإرشاد والتدريب لفهم طبيعة الأعمال التجارية وإطلاق مشروعها الخاص. وصرّحت لخدمة “تلقيت الدعم من مرشد هندي في مجال تكنولوجيا المعلومات. وساعدني هذا في مسيرتي كخبيرة رقمية ووجدت منصة لبناء مشاريعي والتعريف باسمي”.
لكنها تعتبر الوضع اليمني الحالي “ضبابيا”، ومستقبل سيدات الأعمال غامضا في بلد يعاني عقبات متعددة الطبقات في مسارات النساء.
واعتبرت أن “الاقتصاديين أنفسهم يبقون غير قادرين على الإجابة على الأسئلة حول مستقبلنا. لا يمكننا التخطيط لمدى سنة أو ثُلاثية.
وتبقى خطط عملنا قصيرة الأجل”.
أهداف التنمية المستدامة في اليمن تؤكد على الحاجة إلى مشاركة المرأة الكاملة والفعالة وتكافؤ فرص القيادة
ويرتفع أمل النساء اليمنيات رغم كل التحديات. وذكرت جمعان “إذا توفرت شروط ومقومات النجاح، ويرتبط كثير منها بالمرأة وإيمانها بقدراتها، فإنها ستستطيع بلوغ قوتها الاقتصادية عندما تتاح لها فرص التعليم والتعلم والتأهيل واكتساب الخبرات والمواهب”.
وتقول عليا الأم لطفلين، إنها تعاني كثيرًا من هذه الأزمة، مشيرة إلى أنها مثل غيرها من النساء اضطررن للعمل حتى يحصلن على ما يمكن أن يساعدهن على تحمل أعباء الحياة أو حتى يكفل أنفسهن فقط. وأضافت “أعمل مندوبة بمتجر أدوات التجميل في نقل البضاعة للزبائن من مكان إلى آخر حسب الطلب وأتقاضى نسبة صغيرة من كل ما يباع”.
وأشارت إلى أن “الربح الذي تحصل عليه من عملها ضئيل جدًا، وأبدت اقتناعها بذلك بدلاً من لا شيء”. مضيفة أن “ارتفاع الأسعار بهذا الشكل المخيف أضر بالأسر كثيرًا على كل المستويات”، ونسبة الإقبال على المنتجات أصبح ضعيفاً على غير ما كان في السابق. والناس لم تعد تهتم بالكماليات والمظهر بقدر ما تهمها لقمة العيش والحصول عليها“.
ومثلها تقول سعاد أن الأوضاع المعيشية التي تمر بها البلاد من حرب وتدهور للاقتصاد هو ما دفعها للذهاب إلى سوق العمل، بحثا عن عمل تحصل من ورائه بعض الدخل لتتمكن من العيش، وقالت “حاليا وجدت عملا كمنظفة في مركز صحي في مدينة تعز بمرتب 40 ألف ريال بمعدل ست ساعات صباحا”.
وأضافت: “مرتبي لا يكفي لاحتياجات أسرتي لكني أعمل كل جمعة في تنظيف بعض البيوت وكذلك غسل الملابس وأحصل مقابل ذلك على بعض الأموال مقابل عملي طوال النهار”.
وأشارت إلى أن “زوجها مصابٌ بحالة نفسية ولديها طفلان تقوم برعايتهما من خلال مرتبها البسيط “. وتابعت: “مع ارتفاع الأسعار لم يعد للمرتب قيمة وكلما حاولنا إخبار الإدارة بزيادة مرتباتنا يتم تهديدنا بالاستغناء عنا وأن هناك الكثير ممن يبحثن عن عمل ما يجبرنا على البقاء على هذا النحو”.
وتحدثت تقارير أممية عن استفحال ظاهرة الفقر باليمن مؤخرا، وأكدت حاجة 24 مليون يمني للمساعدات الإنسانية والغذائية العاجلة خاصة في ظل بروز مؤشرات للمجاعة في أكثر من محافظة يمنية.
وفي مبادرة رائدة، اتخذت منظمة العمل الدولية خطوة مهمة نحو تحقيق المساواة بين الجنسين في قطاع المقاولات في اليمن. فقد مكّن دعم المنظمة لمشروع الأشغال العامة من تنفيذ برنامج تدريبي رائد لـ52 امرأة في 10 محافظات، مع التركيز على مبادئ المشاركة بين الجنسين وأساسيات إدارة الأعمال ومبادئ التشغيل المكثف والتعاقد المجتمعي. ولا تقتصر هذه المبادرة على نقل المعرفة فحسب، بل هي عملية تحويلية تزوّد هؤلاء النساء بالأدوات اللازمة ليصبحن مقاولات ناجحات في المجتمع.
ويظهر جلياً نجاح البرنامج من خلال قصص النساء اللواتي تمت مساعدتهن. ومن بينهن المهندسة كريمان عاطف، خريجة الهندسة المدنية من جامعة عدن وتبلغ 37 عاماً، واليوم هي تملك وتدير مكتب “كريمان للمقاولات”. وقد نجحت إلى جانب زميلتيها انتصار كيدما وريم ثابت، في الفوز بمناقصة لإعادة تأهيل قناة للتحكم بمياه الأمطار وإعادة توزيعها في قرية الخداد بمحافظة لحج. هذا المشروع هو أكثر من مجرد مشروع تطوير للبنية التحتية، فهو رمز لتغير المعادلة في قطاع يهيمن عليه الذكور تقليدياً.
واللافت أن استجابة المجتمع المحلي تجاه المشروع كانت إيجابية للغاية. فالقناة التي تم بناؤها حديثاً لا تخدم شريحة كبيرة من المزارعين فحسب، بل تشهد على الدقة والعناية التي توليها النساء لمثل هذه الأعمال الإنشائية. وقد أعربت اللجنة المجتمعية، بقيادة فضل العمري، عن امتنانها لمنظمة العمل الدولية على هذه المبادرة التي لم تحم المنازل والمزارع من أضرار الفيضانات فحسب، بل أتاحت أيضًا لأكثر من 500 مزارع ري أراضيهم بسلام.
وتعتبر رحلة كريمان من خريجة جامعية تكافح من أجل العثور على وظيفة إلى مقاولة ناجحة منارة للأمل والإلهام. فهي تسلط الضوء على العوائق المجتمعية والثقافية التي تواجهها المرأة والشجاعة اللازمة للتغلب عليها. وكانت الدورة التدريبية التي قدمتها منظمة العمل الدولية بمثابة الحافز لكريمان وأقرانها، حيث زودتهن بالمهارات والمؤهلات اللازمة للمنافسة في قطاع المقاولات.
ومع ذلك، لا تزال التحديات كبيرة. فالعبء المالي للحصول على الوثائق والتراخيص الرسمية باهظ ويكلف آلاف الدولارات. وعلى الرغم من هذه العقبات، فإن تصميم كريمان لا يتزعزع. فهي تطمح إلى مواصلة عملها بطموح التقدم للمناقصات العامة وتعزيز توظيف المرأة ومشاركتها في قطاع المقاولات.
وتعتبر المبادرة حركة نحو الشمولية والتمكين. فهي قصة نساء يواجهن المعوقات ويتحدين الصعوبات ويمهدن الطريق للأجيال القادمة. ومع استمرار كريمان وزميلاتها في البناء على نجاحهن، فإنهن لا يبنين قنوات لمياه الأمطار فحسب، بل أيضاً قنوات للتغيير والمساواة والتقدم.
المصدر : العرب