مختار الدبابي
قبل أيام بحث وزير الداخلية التونسي خالد النوري مع سفير الولايات المتحدة جوي هود مشروعات التعاون المشتركة المتعلقة بمجالات الأمن ومكافحة الإرهاب والهجرة غير النظامية، في خطوة لتعزيز التعاون الأمني بين البلدين. وتزامن اللقاء مع بيان للبنتاغون يقول فيه إن الولايات المتحدة وافقت على صفقة محتملة لبيع قوارب من طراز سيف أركانجل ومعدات مرتبطة بها إلى تونس بكلفة تقدر بنحو 110 ملايين دولار.
وأعاد هذان الحدثان النقاش بين التونسيين على مواقع التواصل الاجتماعي حول علاقات تونس الخارجية، هل هي في صف أميركا أم الصين وروسيا، خاصة بعد جدل سابق يرى أن تونس تتجه إلى الخروج من تحالفاتها الغربية وبناء أحلاف في الشرق تحقق لها مطالبها، وأن البلاد لا ينبغي أن تبقى رهينة شروط الغرب وإملاءاته، ويمكنها أن تحصل على ما تريده من خلال صداقتها مع الصين وروسيا.
بالتأكيد، فإن هذا الجدل لا يعبر عن الموقف الرسمي، وهو قراءة أو بالأحرى هو جزء من أماني مجموعات سياسية محسوبة على الرئيس قيس سعيد أو قريبة من توجهاته تريد أن ترى تونس في قطيعة مع “الإمبريالية”، وأن تراهن على حلفاء “شيوعيين” في الشرق.
لم يعد الأمر يقاس بالتقسيمات القديمة، فقوى الشرق التي يقصد بها روسيا والصين لم تعد دولا شيوعية ولا اشتراكية، وهي دول رأسمالية تعمل جاهدة على زيادة نفوذها من خلال التناقض مع الولايات المتحدة. البعض يعيش على الماضي، ويعتقد أن الروس والصينيين يمكن أن يمدوا اليد للدول الصغيرة أو للأنظمة المناوئة للهيمنة الغربية. لكن الواقع أن العلاقات الدولية مبنية على المصالح، بمعنى أن أي دولة تريد الاقتراب من بكين وموسكو عليها أن تعرض ما لديها من فرص وليس ما تقدر على إظهاره من مواقف مناوئة لواشنطن.
◙ الرهان على الاتجاه شرقا في حكومة قيس سعيد مرده رفض شروط صندوق النقد الدولي لتقديم الدعم مقابل الإصلاحات
ولم يبد قيس سعيد في أي خطاب من خطاباته أنه ضد تدعيم العلاقة مع الولايات المتحدة. لم يتجاوز موقفه التأكيد على رفض التدخلات الخارجية في الشأن التونسي، في إشارة إلى التعاليق التي تصدر من مسؤولين أميركيين أو أوروبيين وبعض المنظمات الحقوقية الغربية بشأن مسار 25 يوليو 2021 والمحطات الانتخابية، وتوقيف بعض المعارضين.
كما أن الرهان على الاتجاه شرقا في حكومة قيس سعيد مرده رفض شروط صندوق النقد الدولي لتقديم الدعم مقابل الإصلاحات، وهو ليس رفضا بالمطلق للتعامل مع المؤسسات المالية الدولية المرتبطة بأميركا، والدليل حصوله على قروض من البنك الدولي، ومن بنوك أوروبية. كما أنه لا توجد ضمانة بأن الروس والصينيين سيقدمون لتونس مساعدات وقروضا دون ضمانات أو شروط.
ولا يعدو التلويح بالاتجاه شرقا أن يكون ورقة لتحسين شروط التفاوض مع الغرب. وأي تأويل بالقطيعة وافتعال المعارك، هو إسقاط أيديولوجي ليس أكثر.
وإذا فصلنا بنية العلاقات التونسية – الغربية نجد أن تونس مرتبطة هيكليا بالولايات المتحدة وأوروبا ولا يمكنها بأي شكل أن تنفصل عنهما جزئيا أو كليا، وذلك لاعتبارات بعضها يتعلق بالجغرافيا، وبعضها الآخر بالنظام الاقتصادي وشبكة التعاملات المالية والتجارية ليس فقط للدولة التونسية، ولكن بالأساس للشركات والمؤسسات الاقتصادية والتجارية الصغيرة أو المتوسطة أو الكبيرة.
من الصعب على تونس أن تتجه كليا إلى الشرق، وذلك لاعتبارات منها أن اقتصاد البلاد مبني أساسا على العلاقات مع الغرب، وبالذات مع أوروبا، ويدها العاملة المتخصصة تجد سهولة في الاندماج في فرنسا أو ألمانيا أو إيطاليا، لكن الشرق لا يوفر لها هذه المزايا، وشركاتها اندمجت كليا في النظام الاقتصادي الغربي. من الممكن أن تنوع تعاملاتها، لكن لا يمكنها أن تقوم بقطيعة تامة.
والأهم من ذلك أن تونس بنت علاقات عسكرية وأمنية مع الغرب من الصعب التخلي عنها، أو خلطها بعلاقات أخرى. وهو مجال حساس لا يقبل بالشيء ونقيضه، ويمكن أن نشير إلى الجدل الغربي الذي حصل حين لوحت تركيا بالحصول على صواريخ روسية من نوع أس 400، وهي صفقة لا تزال معلقة لأن اعتمادها يتناقض مع اعتماد أنقرة على المنظومة العسكرية والأمنية الغربية كونها عضوا في الناتو.
ومنذ ما قبل ثورة 2011، تقيم تونس علاقات أمنية وعسكرية متينة مع الولايات المتحدة. وبدا الأمر أكثر إلحاحا خلال فترة مواجهة الإرهاب ما بين 2013 و2016، حيث لم يقف الأميركيون عند التنسيق في مواجهة الإرهاب ومروا إلى مشاركة ميدانية داخل الأراضي التونسية في جبل سمامة، وفق ما كشفت عنه تقارير أميركية.
ومنحت الولايات المتحدة في 2015 تونس صفة الشريك الأساسي من خارج حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ويمنحها هذا الامتياز الحصول على تدريبات عسكرية وقروض وتمويلات لشراء معدات للبحث والتطوير وشحنات دفاعية، وفق الإدارة الأميركية. كما تشارك تونس في العديد من المناورات الأميركية من بينها مناورات الأسد الأفريقي.
◙ تونس بنت علاقات عسكرية وأمنية مع الغرب من الصعب التخلي عنها، وهو مجال حساس لا يقبل بالشيء ونقيضه
والتنسيق الأمني لا يقف عند تونس، فأميركا تنسق مع الجزائر وليبيا والمغرب وموريتانيا، وتحصل لقاءات ثنائية وجماعية بين الأميركيين ونظرائهم في شمال أفريقيا، وهناك اتفاقيات بشأن محاربة الإرهاب من دون أن يكون في ذلك تعد على سيادة هذه الدول.
ومثلما أن أميركا في حاجة إلى التنسيق، تحتاج دول شمال أفريقيا، التي ابتلي بعضها بالإرهاب، إلى التنسيق الدائم والمعلومات الأمنية ومشاركة الخطط والأفكار، كما أنها تحتاج إلى الدعم في مواجهة موجات الهجرة السرية. وهناك تنسيق آخر يتعلق بتطورات الملف الليبي في ظل تشابكاته المختلفة مع وجود أطراف مسلحة داخلية وخارجية.
وتعامل قيس سعيد مع التنسيق الأمني مع الأميركيين على أنه التزام من الدولة التونسية وليس سياسة مرتبطة بحزب أو جماعة، وأنه حاجة ملحة لتونس، وهو ما يفسر تتالي اللقاءات بين مسؤولين أميركيين وتونسيين.
وفي 30 يوليو الماضي قال السفير هود إن واشنطن قدمت دعما ماليا لتونس في المجال الأمني تجاوز مليار دولار منذ عام 2011، وذلك خلال كلمة ألقاها بمؤتمر إعلامي نظمته الإدارة العامة للحرس الوطني التونسي بالشراكة مع “معهد الولايات المتحدة للسلام” في العاصمة تونس.
ونوه هود بمجهودات قوات الأمن التونسي في “المحافظة على الأمن في تونس وجعلها وجهة آمنة وجالبة للاستثمار”.
وفي وقت سابق اتفقت الإدارة الأميركية والحكومة التونسية على تعزيز “الشراكة طويلة الأمد” في المجال العسكري والأمني بين البلدين، بما في ذلك “مراجعة بناء القدرات الدفاعية لتونس وتوسيع دورها القيادي إقليميا”.
وفي عام 2020 وقعت تونس وواشنطن وثيقة خارطة طريق لآفاق التعاون العسكري بين البلدين في مجال الدفاع للعشرية القادمة. وتهدف هذه الخارطة إلى الرفع من جاهزية القوات المسلحة التونسية وتطوير قدراتها لمجابهة التهديدات والتحديات الأمنية.
مختار الدبابي
كاتب وصحافي تونسي
نقلآ عن صحيفة العرب