منى يسري
كاتبة مصرية
ارتبط التطرف والمغالاة في الدين كثيراً بطائفة الخوارج، وراج تاريخهم عبر أطروحات وروايات الخصوم، دون التأصيل السيسيولوجي للظرف الموضوعي آنذاك، وتفكيك الخلط الذي حدث في القرن الأول الهجري بين الدين والسياسة، والذي استعصى على العديد استيعابه ومواكبته، فانشق الصف الإسلامي بعد جمع شتاته، وكان الخوارج أول من هجر صفوف الجماعة، وبتاريخٍ حافلٍ من ثوراتهم، شملت عمر الدولة الأموية.
دلالات لفظية
شغلت قضية الخلافة لقرون عديدة بال المسلمين بعد مقتل عثمان بن عفان، ولعل هذا النزاع الدامي الذي استمر زمناً، هو نواة الانشقاقات التي حدثت في صفوف المسلمين، ليصبغها المؤرخون بصبغة دينية، وهو ما يدفعنا لسبر أغوار التاريخ، واستكشاف أوجه أكثر موضوعية لتلك الانشقاقات السياسية (الأيديولوجية) بالمقام الأول، على الرغم من اتشاحها برداء ديني زائف.
وإذ تحمل اللغة العربية دلالات لفظية أكثر عمقاً من ظاهرها، فإنّ ما تواتر عن الخوارج بحسب اسمهم، استخدمه الخصوم بدلالة تشي بخروجهم عن الجماعة، وانشقاقهم عن صفوف الحق، وهو ما يروجه أهل السنة حتى يومنا، ولكن تاريخ التسمية مر بمراحل عديدة بدءاً من “الحرورية”، في معجم الخليل بن أحمد الفراهيدي “العين”، وهو أول معاجم اللغة العربية، حيث اسم الحرورية في باب “ح ر ر”، نسبة إلى حروراء، وهي قرية بظاهر الكوفة، حيث اجتمعوا قرب النهروان بعد مفارقتهم علي بن ابي طالب، الذي قاتلهم، حتى مكث ما تبقى منهم بقرية النخيلة، وارتبط اسمهم بالصيغة المكانية، قبل أن يحمل الاسم أية دلالات فكرية أو أيديولوجية ذات أبعاد سياسية ودينية، بحسب ما أورده الدكتور محمد عمارة في كتابه “تيّارات الفكر الإسلامي”.
وانطلاقاً من الصيغة النهائية التي انتهى إليها اسم تلك الجماعة “الخوارج”، فإنّ تصريفاته اللغوية من الفعل خرج، لن تفي بما يقصده المعنى المطروح من خصومهم، لذا فإن الدلالات القرآنية التي جاءت بفعل الخروج، إنّما تدل على الخروج إلى الجهاد والغزو، والعكس منه فعل القعود، كما قوله تعالى في سورة التوبة: ” وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَٰكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ”.
وعلى الرغم من الوضوح اللغوي للاسم، إلّا أنّ كل فرقة وجّهته بما يخدم رؤيتها، فبينما يرى أهل السنة أنّ الخوارج هم الخارجون عن الجماعة وأهل الحق، يرى سالم بن حمد الأباضي في كتابه “العقود الفضية في أصول الأباضية” أنّ لفظ الخوارج كان في الزمان الأول مدحاً، مستدِلاً بذلك بآية سورة التوبة سالفة الذكر، وهنا لعب التوظيف اللغوي للاسم دوراً كبيراً في توجيه طوائف المسلمين كلٍ حسب فرقته.
بذور الشقاق
إذا أمعنّا النظر في تاريخ الخوارج، فإنّ كل ما أوردته الآثار والنصوص يستدل على أنّها جماعة وليدة الظرف الحادث عصرئذٍ، فمجرد رفض التحكيم من بعض المسلمين، أظهر مجموعة من المنشقين سُموا بالخوارج، وبالنظر إلى إستراتيجيتهم ورؤيتهم لعملية الحكم والخلافة، والأسس النقدية التي رفضوا بها حكم عثمان، وانقلبوا على عليّ بعد خدعة التحكيم، هو دلالة على وجود جذور فكرية لتلك الجماعة، قبل الحادثة، ويمكن اعتبار تلك الواقعة بأنها تبلور نهائي لفكرهم ومجاهرة به، حسبما اعتبرها المفكر حسين مروه، الذي رأى في حركتهم “أول ثورة اجتماعية في الإسلام”، فالسبب وراء انشقاقهم، كما يقول، لم يكن دينياً كما يروج أهل السُنّة، بل كان سبباً سياسياً ألبسه الأمويون ثوباً دينياً، حتى التناقضات التي جمعتها مبادئ الخوارج ليست سوى طرح أيديولوجي تطرق إليه الدين لاستمالة العامة إلى صفوفهم، كما حدث مع باقي الفرق الإسلامية، والحركات الاجتماعية التي توالت بعدها.
وناقشت الباحثة التونسية ناجية الوريمي في كتابها “الإسلام الخارجي”، جذور الشقاق الذي أرجعته إلى مطامع بني أمية في الحكم منذ دخل أبو سفيان بن حرب إلى الإسلام، استدلالاً بحديث النبي صلى الله عليه وسلم “من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه داره فهو آمن”، وجاء هذا الحديث بناء على طلب أبي سفيان من النبي عليه السلام أن يجعل له شيئاً يُكرّمه به، فكان له.
وفي سياق متصل، أوضح الدكتور محمود اسماعيل في موسوعته “سوسيولوجيا الفكر الإسلامي” أنّ الصراع تمثل بين أيديولوجيتين، فبين عدل عمر، رضي الله عنه، الذي اختفى بعد مقتله وتنصيب عثمان بن عفّان، رضي الله عنه، الذي أرست عشيرته قواعد الإقطاعية الأولى في الإسلام وبدأها معاوية حين وليّ على الشام، وبين عدل على بن طالب، رضي الله عنه، الذي تطلع له المسلمون أن يعيد إليهم أمجاد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، انطلق الخوارج بأيديولوجية ديموقراطية تضع منصب الخلافة للأصلح حتى لو كان عبداً أو امرأة، وهو ما يستدل به على عدم التشدد، فبينما غالى المسلمون في حصر الخلافة بالرجال من أصحاب النسب القرشيّ، وآل البيت، رأى الخوارج أنّ الخلافة وظيفة سياسية يتولاها الأصلح والأقدر على حمولتها.
حرب الجمل وفتيل الفتنة الكبرى
مثلت حرب الجمل فتيل الفتنة الذي توالت بعده الصراعات، على الرغم من انتصار علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، بها، إلّا أنّها فجرت كل أسباب الثورة الاجتماعية التي أخمدها الخلفاء بعد موت النبي مباشرة، ورغم أنّ منصب الخلافة الشاغر بعد مقتل عثمان كان لأجل عليّ بن أبي طالب موضوعياً بلا منازع، إلاّ أنّ الفتنة التي أشعلها الأمويون وطلبهم التحكيم الذي كان خدعة في أصل الأمر هي ما دفعت الخوارج للانشقاق، لمدى إدراكهم خدعة الأمويين، مطالبين علياً بقتالهم، والقضاء على معاوية وابنه يزيد، وهو ما حدث في حرب صفين التي انبثقت منها بشكل نهائي الأيديولوجية الجديدة، المناوئة للأيديولوجية الأوليغاركية التي يتنازعها العلويون بنسبهم القرشي الهاشمي، والأمويون بجذورهم البرجوازية.
انتهت معركة صفين بالانشقاق الأخير، للخوارج الذين مثّلوا أول تيار جديد تبلور في ذاك العصر واستمر سنوات لاحقة، وانتهى أمرهم كجماعة بشرية أخذت خصومها بالعنف، حيث وضعوا لأنفسهم منهجاً سياسياً وفكرياً وعسكرياً شرعوا بتنفيذه تحت راية مذهبية إسلامية، في معارك دموية ضارية، أضرت بالدولة الأموية لاحقاً وكانت سبباً رئيسياً في إسقاطها.
وطبقاً لما صرّح به الدكتور عبدالسلام القصاص، أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة كفر الشيخ المصرية، لـ”حفريات” فإنّ الخوارج ليسوا سوى حزب معارض للسلطة تم تشويهه من قبل السلطويين.
ويردف:” عندما يأتي ذكر “الخوارج” يتبادر إلى الذهن تلك الفرقة “الكافرة” التي خرجت على الحاكم “الامام علي”.
وقد انحسرت في تلك الدائرة الضيقة “الكفر” دون النظر بموضوعية إلى آرائهم وفلسفتهم الاعتراضية “الثورية”، وظهورها ليس وليد لحظة تاريخية ضيقة؛ ولكنها بدأت في تكوينها الأيديولوجي الاجتماعي والسياسي في مراحل سابقة على فترة خلافة الإمام علي. وتعتبر بمثابة الفرقة الأولى التي أظهرت اعتراضها وأسست لمنظومة ثورية تم اضطهادها سلطوياً، وأظهرتها في شكل تكفيري لإبعاد فلسفتها الثورية عن الشعبوية الناقمة على الحاكم الظالم.
ثورات الخوارج والمهلب
وبمقتل علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، على يد الخارجي عبدالرحمن بن ملجم، عام 661، طويت من التاريخ صفحة الخلفاء الراشدين وعهدهم، مبلورة خلفها ثلاث تكتلات رئيسية: “شيعة علي، وحزب الأمويين، والخوارج”.
أخذ الخوارج بغاراتهم على أهل الشام، وكادوا يهزمون معاوية في أول لقاء لهم بجيشه لولا أن استعان عليهم بأهل الكوفة.
بدأت الثورات الأولى للخوارج في عام 37 بعد التحكيم بأشهر، واستمرت في التتابع سنوات عديدة حتى خروج الثورة الكبرى للأزارقة (أتباع نافع بن الأزرق الخارجي) في شوال من العام 64 للهجرة، واستمرت عامين، وحين عجز الأمويون عن صد هجمات الخوارج استعانوا عليه بالمهلب بن أبي صفرة، فلم يتغلب على الخوارج أحد من جيش الأمويين سواه.
وفي رواية للمسعودي أنّه: “لما غلبت الخوارج على البصرة بعث إليهم عبدالملك بن مروان جيشاً فهزموه، ثمّ بعث إليهم آخر فهزموه، فقال من للبصرة وللخوارج؟ قيل له ليس لهم إلاّ المهلب بن أبي الصفرة”، وفاوض المهلب عبدالملك بن مروان على نصف الخراج من الأرض، فوافق على أن يقاتل الخوارج ويكسر شوكتهم، واستعان عليهم المهلب بكبار التجار والإقطاعيين الذين أغراهم بازدهار تجاراتهم التي أصابها الكساد بسبب ثورات الخوارج المتتابعة، فقام التجار بتمويل الجيش ضد الخوارج، طمعاً في استقرار أوضاعهم الطبقية.
إشكالية الفكر والأيديولوجيا
يذكر حسين مروة في كتابه “النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية”، أنّ الصراع الدائر إبّان انتهاء عصر الخلفاء الراشدين لم ينتج فكراً واضحاً؛ فقد انشغل المسلمون آنذاك بالصراعات السياسية التي تسترت بمذهبية وعصبية، “فهناك العصبية الهاشمية في مواجهة الأموية الجاهلية، وهو ما ثار ضده الخوارج برؤيتهم الديموقراطية التي ليست سوى انعكاس لقضية اجتماعية، فجرها الأمويون بإرساء دعائم الإقطاع في خلافة عثمان”.
ويستفيض كتاب “الفتنة الكبرى” للدكتور طه حسين في أمر الفتنة بتأصيل تاريخي لم يتعرض له أحد قبله؛ إذ إنّ الخوارج كانوا بمنزلة وسطية، فهم ليسوا بأصحاب مطامع سياسية، ولا يتنازعون على الخلافة، إنّما هم قوم يثورون ضد كل ملك ظالم، ويحاربون الملوك والخلفاء ما وجدوا إلى حربهم سبيلاً، وحربهم إنما أخذت مجرى اجتماعياً سياسياً، فهم أشبه بحراك مناوئ لظلم بني أمية الذي رأوه متفشياً، كما رأى طه حسين أنّهم لم يكونوا بحزبٍ سياسيٍ خطير، بل تلاشى أثرهم بعد زوال بني أمية واستقرار بني العباس في الخلافة، وانتقلت سيرهم وأفكارهم عبر فلسفة المتكلمين، وأخذت مواضع أُخرى ليست كما بدأت في صفين وما قبلها.
بيْد أنّ الصفة التي ظلت لصيقة بالخوارج تعكس انطباعات سلبية عنهم؛ إذ صار الاسم يرد في سياق الخارجين عن قواعد الإسلام وشريعته وسننه، وصار الخوراج صنو الإرهابيين.
لكنّ الدكتور عبدالسلام القصاص يوضح لـ”حفريات” أنّ “الاتهام بكفر الخوارج يأتي من طريق إثباتات لم تتطرق أبداً لرفضهم التوحيد الذي يعتبر الأساس القوي للدين الإسلامي، ولكن يأتي عن طريق اصطياد أفعال ذكرتها كتب التراث ذات الميول السلطوية”.
المصدر : حفريات