فريد بن بلقاسم
تظهر الإسلاموية باعتبارها نسقاً أيديولوجياً مركّباً من جملة من المفاهيم والأفكار والتصورات التي تصوغ بها مقالاتها وخطاباتها من جهة، وباعتبارها أشكالاً تنظيمية ذات هيكلة مخصوصة تتوسلها للحركة والفعل في الحقلين الاجتماعي والسياسي من جهة أخرى. وبناء على هذه الازدواجية التي تمنح الإسلاموية خصوصية باعتبارها ظاهرة ذات قدرة على الاستقطاب والتأثير المتفاوتين في المجتمعات والدول العربية المعاصرة تقترح هذه الدراسة منظوراً تحليلياً يقوم على مفهومي التحدي والخطر، ذلك أن التحدي في إطار هذه الدراسة مفهوم يعالج الإسلاموية من حيث هي تيار يحمل مشروعاً أيديولوجياً ويستند في تبرير وجوده وفي إضفاء المعنى والمشروعية على خطاباته إلى رؤية فكرية يعمل على وصلها بالموروث الإسلامي باعتباره نموذجاً أعلى يطمح إلى استعادته، وهو ما يشكل تحدياً للفكر العربي المعاصر من حيث قدرته على إبداع مشروع فكري بغاية اللحاق بركب الحضارة والمدنية المعاصرتين والإسهام بنجاعة واقتدار فيهما.
وأما الخطر في نطاق هذه الدراسة فهو مفهوم يتدبّر الإسلاموية من حيث هي تنظيمات تستغل جملة من العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تخلق وضعاً متسماً بالهشاشة لتكون فاعلة على أرض الواقع، وتتراوح تجاربها بين المعارضة بمختلف أشكالها من السلمية إلى الاحتجاجية والعُنفية وممارسة الحكم الذي وصلت إليه بوسائل مختلفة، وقد خلّفت هذه التجارب آثاراً مادية قابلة للقياس في المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية، وقد كان من الواضح من خلال مختلف التجارب أن تلك الآثار تدور في فلك المخاطر التي هددت وتهدد كيان الدولة واستقرار المجتمع. ولا يقتصر اهتمام هذه الدراسة على المهمة التشخيصية فحسب، وإنما تسعى إلى محاولة تقديم رؤية للاستجابة سواء للتحديات أو للمخاطر أيضاً من منطلق الحاجة إلى أن ينخرط البحث العلمي العربي المعاصر في معالجة الظواهر التي تسبب مشكلاتٍ وتحدث أزمات في المجتمع ويقترح الحلول لمواجهتها.
أولاً: الإسلاموية باعتبارها تحدياً أيديولوجياً
لقد كانت آمال المثقفين العرب وطموحاتهم منذ بدء عصر النهضة العربية الحديثة في أواخر القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر على اختلاف مشاربهم وتنوع نزعاتهم من إصلاحية وقومية وليبرالية ويسارية وعلمانية، معلقة على أن يتدارك العرب وضع التفاوت التاريخي بينهم وبين الأوروبيين وأن يلحقوا بركب الحضارة التي كان الغرب عنوانها إذ كان ينظر إليه “كمستودع للمدنية الحديثة ومعلم في أساليب التفكير والتقنية التي كانت تلك المدنية متوقفة عليها”[1].
ولكن حال دون تحقيق تلك الآمال والطموحات معوقات عديدة منها ما يتصل باضطرابات السياسة وتعقيداتها، ومنها ما يتصل بالثقافة من حيث البنية الذهنية والرسوم الموروثة التي شكلت عقالاً كبّـل العقل والفكر إلخ.. فتعمق الفارق التاريخي بين العرب والأمم المتقدمة. واستفحلت الأزمة بظهور الإسلام السياسي، الذي ارتد بالفكرة السلفية الإصلاحية التي دعا إليها جمال الدين الأفغاني (ت 1897) ومحمد عبده (ت 1905) ومحمد رشيد رضا (ت 1935) إلى أيديولوجيا سياسية، ونظر باستعداء لكل محاولات التحديث التي شرعت فيها بعض الدول العربية، خصوصاً في مرحلة ما بعد الاستقلال، وعمل على أن يصد تقدمها وترسخها من خلال أطروحاته وممارساته[2].
ويطرح هذا التيار في سيرورته وفي تفرع حركاته وتعددها تحديات فكرية ونظرية جمة لاسيما في مستوى الدولة من حيث طبيعتها ومصادر المشروعية التي ينهض عليها نظامها السياسي، وفي مستوى تنظيم المجتمع من حيث مكانات أفراده وأدوارهم ونظام العلاقات بينهم، وفي مستوى تحديث نظام التفكير والبنى الذهنية وإحداث القطيعة الإبستيمولوجية مع النظم التقليدية.
وتنبع هذه التحديات من خاصية أساسية تشكّل ماهية الإسلاموية ومنها تستمد جوهر وجودها وتكمن هذه الخاصية في تحويل الإسلام ديناً وتراثاً وتاريخاً إلى أيديولوجيا سياسية محافظة وشمولية.
ولا يجد دعاة الإسلاموية حرجاً في القول صراحة إنّ “الإسلام” باعتباره عقيدة وديناً هو أيديولوجيا تحرك المسلمين[3]، وهو ما يعني أن أدلجة الدين وتوظيفه في صياغة أطروحاتها وبناء خطاباتها وتأطير ممارساتها هو عملية واعية وقصدية تتحرك ضمن أفق الرهان على تحقيق مآرب ومكاسب سياسية اجتماعية تتصل بالوصول إلى السلطة ما جعل الدين في وضع “ارتهان إلى عالم السياسة بكل ما تتميز به من مساومات ومناورات”[4]، وإحكام الرقابة والسيطرة على المجتمع من أجل إعادة تشكيله وفق قواعد المشروع الاجتماعي الذي يدعون إليه[5]، وهو مشروع ماضوي مفارق للعصر الراهن ومقتضياته.
فهوى الإسلامويين معلق في دهاليز الماضي ورهانهم استرجاع صورة ماض انقضى وولى، وهي صورة اصطنعها المتخيل الإسلاموي محكومة بمنظومة أفكاره ومفاهيمه وتمثلاته وبنزعاته الأيديولوجية، فلذلك هو يلغي من هذه الصورة التراث كله الذي يصل التجربة التاريخية الإسلامية بالإنساني والكوني وما كان علامة على تألق الثقافة الإسلامية وازدهارها على غرار التراث المعتزلي والفلسفي والصوفي والأدبي والشعري.
وهكذا يتحول الإسلام من كونه عقيدة دينية لما يناهز مليار ونصف المليار من البشر إلى كونه أيديولوجيا تتبنّاها أقلية وتعمل من خلالها على ادعاء تمثيله بصفة حصرية، ويترتب على هذا المنحى الاحتكاري تحول الدين من عامل استقرار نفسي وتضامن اجتماعي إلى عامل توتر وتفرقة وانقسام.
إن دعاة الإسلاموية يستغلون “حالة التدين الفطري لدى الشعوب العربية والإسلامية وميلها إلى الدين في أوقات الأزمات”[6]، ونمطاً معيناً من المعارف والتصورات الدينية التي تورث أرضية ملائمة لاستغلال الدين لأغراض أيديولوجية منها بالخصوص الميل إلى التقليد والاتباع وتمجيد الماضي، والاستعداد لتصديق كل من يتكلم باسم الدين، والازورار عن إعمال العقل باستقلالية، والنزوع إلى التعصب ورفض الآخر من منطلق رسوخ ذهنية امتلاك الحقيقة الواحدة والمطلقة، فضلاً عن تعثر مشروعات التحديث وتأرجحها بين الوفاء لمقتضيات الهوية والانتماء من جهة والانخراط في قيم العصر ومتطلباته الفكرية والمعرفية من جهة أخرى.
فالبيئة الفكرية السائدة في بعض المجتمعات والفئات العربية هيّأت الأرضية الملائمة لتروج الإسلاموية لنفسها على أساس أنها ممثلة لما تعتبره “الإسلام الصحيح” في مقابل “الإسلام الناقص” الذي تعتنقه الفئات التي تخالفها[7]، وأنها بذلك ابنة شرعية لنظام التفكير المميز للفضاء الثقافي والاجتماعي العربي الإسلامي، فهي منسجمة مع شروطه ومقتضياته ومعبرة عن طموحاته وآماله.
ولعله من المفارقة أن تلتقي الإسلاموية في هذا المضمار مع رأي عتاة الاستشراق الكولونيالي من أمثال برنارد لويس الذي يعتبر أن الحركات الإسلاموية هي أكثر الحركات تمثيلية واستقطاباً في صفوف المسلمين، وأن خطابها أكثر الخطابات التي يفهمها المسلمون ويتجاوبون معها، فهي بذلك التيار الرئيسي والأقوى في الإسلام والممثل الشرعي لتراثه ومبادئه[8].
وهكذا قدمت الإسلاموية نفسها باعتبارها أيديولوجيا قادرة على أن تمثل ما يمكن اعتباره “البنية النظرية الفوقية للمجتمع” من ناحية، وحاملة لواء الهوية الإسلامية الأصيلة من ناحية أخرى.
فهي الأيديولوجيا التي تنبثق منها المعارف والعلوم الضرورية للمجتمع، والتي تمثل البديل من خلال أطروحة الحل الإسلامي[9]، في مواجهة أعداء الخارج المتمثلين في القوى الغربية الغازية إما بجيوشها وإما بقيمها وأفكارها الهدامة، ويطرح نفسه مدافعاً عما يصفه “هوية إسلامية” تتعرض للتجريح والإهانة من الآخر[10].
وهي ترتكز في ذلك على مفهوم الأسلمة الذي يراد به السيطرة على عقول الشباب المسلم في إطار ما يسمى المعركة الحضارية مع القيم الغربية، ووفق مبادئ تتغذى من تصور الإسلاميين المخصوص للإسلام باعتباره نظاماً أخلاقياً وتشريعات وثقافة[11]. وتمثل الأسلمة بالنسبة إليهم منهجية تفكير ورؤية للأشياء وخطة عمل في الآن نفسه، فهي حجر الزاوية في الطريقة التي بها يستجيب إلى ما تطرحه الحياة المعاصرة من تحديات، وهي تهدف إلى إضفاء ما يتصورون أنه مسحة إسلامية على الحياة في وجوهها المتعددة.
وتتعدد رهانات الأسلمة لتغطي مجالات الحياة كافة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والتربوية، وتلتقي عند غاية رئيسية نابعة من التشديد على الطابع الحركي العملي للحركة الإسلامية وهي “قيادة المجتمع”[12].
فهي مسكونة بهاجس الفعل الاجتماعي السياسي للسيطرة على الواقع وإحداث التغيير فيه[13].
ويقف المتابع للتحولات التي تشهدها المجتمعات العربية الإسلامية عند تنامي ظاهرة الأسلمة منذ نهاية ستينيات القرن العشرين التي شرعت تكتسح مجالات متنوعة، فظهرت اتجاهات قوية في الأوساط العلمية لأسلمة العلوم سواء كانت علوماً طبيعية أو إنسانية فكثر الحديث عن الإعجاز العلمي في القرآن والإعجاز الطبي وعن علم الاجتماع الإسلامي وعلم النفس الإسلامي وعلم الاقتصاد الإسلامي وغيرها من العلوم[14].
ولم يقتصر الأمر على المجال العربي الإسلامي بل تعداه إلى الدول الغربية، فقد ظهرت اتجاهات سياسية وعلمية فيها تروّج لما يُعرف بالمالية الإسلامية وتخصص لها شعباً وفروعاً لتدريسها في جامعاتها في سعي للاستفادة من الإغراءات المالية التي تقدمها البنوك الإسلامية[15].
تشكّل الأيديولوجيا الإسلاموية بما هي رؤية للعالم والمجتمع والدولة والإنسان وبما تتضمّنه من أفكار ومفاهيم وتصوّرات وبسعيها المحموم لتكتسب شرعية تمثيل المسلمين ولتكون الأيديولوجيا المهيمنة في صفوفهم، تحدياً متعدد الأوجه سياسياً واجتماعياً وفكرياً ومعرفياً لا في مستوى الحدّ من هيمنتها ونزع الشرعية عنها فقط، وإنّما في مستوى إحداث التغيير في البنى الفكرية والأنظمة المعرفيّة السائدة أيضاً بما لا يوفّر إطاراً اجتماعياً وثقافياً ملائماً للإسلاموية ويقلص إلى حدود دنيا جاذبيتها.
ثانياً: الإسلاموية خطراً تنظيمياً
يتعلق الأمر في هذا العنصر بالإسلاموية لا باعتبارها نصوصاً ومفاهيم وأدبيات أي بما هي أيديولوجيا، وإنما بالإسلاموية من حيث هي تشكيلات حركية تضم فاعلين نشطين وتتخذ أشكالاً تنظيمية مختلفة تتراوح بين تنظيمات المجتمع المدني من جمعيات ونقابات وحركات دعوية، والأحزاب السياسية، والحركات العسكرية، وتجمع في أنشطتها بين العملين العلني والسري. ولا شك في أن هناك اشتباكاً بين الوجهين الأيديولوجي والتنظيمي، فالأيديولوجي يؤطّر الممارسة ويوجهها ويضفي عليها المشروعية ويبرر تقلباتها، فضلاً عن دوره في الاستقطاب والحشد والتعبئة للأنصار والأتباع، فوراء كل فعل تنظيمي وكل ممارسة في أرض الواقع خلفية أيديولوجية تسيطر على العقول وتشل قدرتها على التفكير وتجعل الأتباع أشبه بكتلة صماء يتحكم فيها القائد/ الزعيم كيفما شاء.
تظهر الجماعات الإسلاموية في أشكال تنظيمية متنوعة متخذة انطلاقاً من رؤية مَاهوية من “الإسلام” أيديولوجيا تحرك فئات من المجتمع وتجدهم من أجل تحقيق أهداف سياسية بدرجة أولى تتعلق بإرساء ما تعتبره الدولة الإسلامية التي تقوم على أساس حاكمية الشريعة، وأهداف اجتماعية بدرجة ثانية تتعلق بتكوين المجتمع الإسلامي وفق منظور أخلاقي وتراتبية هرمية تستعيد أحكاماً فقهية ومقولات تراثية مفارقة لقيم العصر.
وتنتظم الجماعات الإسلاموية سواء كانت جماعة أو حركة أو تنظيماً أو حزباً وفق بنية هرمية تقوم على عصمة الزعيم سواء سُمي مرشداً أو شيخاً أو أميراً أو قائداً أو رئيساً، وانضباط الأتباع التام لأوامره، فهم ليسوا سوى سدنة لحراسة أفكاره وألسنة ناطقة بها، وقد خلعوا عليه – في إطار صناعة الصورة النموذجية التي يفارق فيها الزعيم بشريته ويرقى إلى مرتبة المنقذ أو المخلّص- هالة من الأمثلة التي تصل إلى حد التقديس، ولعل حسن البنّا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين المصرية ومرشدها الأول أبرز الأمثلة في هذا المضمار، فقد قال عنه عمر التلمساني (1904-1986) بعد أن ارتفع به إلى مقام النبوة في تعامله مع أصحابه: “إنه نعمة الله على هذا الجيل والله وحده العليم، على أي صورة كانت أحوال المسلمين ستكون، لولا هذا الداعية الكبير الذي بصّر المسلمين وأيقظ أذهانهم وحرّك هممهم في الوقت المناسب وكأن الله قد أرسله على قدر مع الأحداث فعلاً فلولا فضل الله على المسلمين بظهور حسن البنّا في هذه الفترة الحرجة الخطيرة من تاريخ المسلمين لكانت المأساة فادحة والطامة كبرى والكارثة طامة عامة ولكن الله سلم”[16].
وتتنزّل هذه العلاقة في إطار تحقيق مفهوم البيعة التي جعل حسن البنّا لها عشرة أركان وهي الفهم والإخلاص والعمل والجهاد والتضحية والطاعة والثبات والتجرد والأخوة والثقة، وعرّف الطاعة بكونها “امتثال الأمر وإنفاذه توّاً في العسر واليسر والمنشط والمكره”[17].
ولا يخفى في هذا الإطار أن الحركات الإسلاموية ولاسيما في مرحلة النشأة قد كانت متأثرة في تنظيمها بالحركات الفاشية، وهو تنظيم قائم على ثلاث ركائز أساسية وهي الشعبوية وعصمة الزعيم والانضباط التام للقواعد لما يصدر عن القمة[18].
ويبدو العمل السري جزءاً من بنية التنظيمات الإسلاموية سواء كانت حركات “جهادية” التي بحكم نزعتها العنيفة وانخراطها في العمل العسكري والقتالي غالباً ما تمارس أنشطتها الإرهابية في كنف السرية والتكتم، أو كانت حركات تنسب نفسها إلى الاعتدال والوسطية مثل الجماعات الإخوانية التي دأبت على تكوين أجهزة سرية جنباً إلى جنب مع جهازها العلني على غرار النظام الخاص التابع لجماعة الإخوان المصرية ويكون الانضمام إليه بالبيعة باستعمال المصحف والمسدس وتحت شعار الجهاد والموت في سبيل الله، وقد تكوّن مع نشأة الجماعة معبراً عن نهجها العدواني، وإضافة إلى أعمال العنف والاغتيال فقد اعتمد على جهاز مخابرات يقول عنه أحد قادته “يولع الإخوان دائماً بجمع المعلومات والتجسّس على الآخرين، وهم يفخرون دائماً أن لديهم جهاز مخابرات قادر على جمع المعلومات وتحليلها، فهم يتجسّسون على كل شيء، على الأحزاب والهيئات، والحكومات، بل على الأجهزة، وكل فرد في موقعه جاسوس لحساب الجماعة، فكل موظف وكل عامل يرسل باستمرار بأسرار وظيفته أو عمله إلى قيادة الجماعة، بل كل ضابط وكل شرطي يقوم بالعمل نفسه لحساب قيادته داخل الجماعة”[19]. وحذت حركات أخرى حذو الجماعة المصرية الأم فأنشأت أجهزة سرية عسكرية وأمنية واستعلاماتية على غرار حركة النهضة في تونس[20]. وفي واقع الأمر إن الصلات بين الجماعات الإسلاموية خصوصاً الإخوانية متينة ووثيقة لا في صعيد الأطروحات الأيديولوجية فقط، وإنّما في الصعيد التنظيمي أيضاً سواء في مستوى ما يعرف بالتنظيم الدولي للإخوان المسلمين أو في مستوى أخطبوط الجمعيات متعددة الأدوار أو في مستوى الروابط المالية، وهي بذلك ذات حضور وتأثير يتجاوز دولة بعينها إلى الإقليم العربي فضلاً عن الدول الأوروبية والغربية وبعض الدول الآسيوية والأفريقية.
تشكّل التنظيمات الإسلاموية سواء سلكت منهج الدعوة أو التزمت العمل السياسي أو اتجهت نحو العنف، وسواء كانت في المعارضة أو في الحكم، خطراً يهدد استقرار المجتمع وسلامة الدولة، ويتجلى هذا الخطر في المظاهر التالية:
تسعى التنظيمات الإسلاموية لا إلى التعبير عن فئة اجتماعية مخصوصة لها مطالبها ومطامحها ومصالحها الخاصة، وإنّما تعمل على إحداث تغييرات جذرية في النظام الاجتماعي لتعيد بناء المجتمع برمته وبمختلف فئاته وطبقاته وفق تصورها في نطاق ما تسميه المجتمع الإسلامي، فهي تريد أن تفرض رؤيتها على الكل الاجتماعي دون مراعاة للتمايزات والتباينات بين التشكيلات الاجتماعية وللتوازنات المطلوبة بينها حفاظاً على الاستقرار الاجتماعي.
وهي تمارس منذ عقود ضغطاً مستمراً على المجتمعات العربية وخصوصاً فئة النساء من أجل فرض نموذج اجتماعي معين.
وقد كشفت وقائع كثيرة في مرحلة ما يعرف بـ “الربيع العربي” التي شهدت بدايتها صعوداً للتنظيمات الإسلاموية ما يمكن أن ينجرّ عن سعيها إلى فرض رؤيتها المجتمعية سواء بما تسميه الدعوة أو بالقوة من توترات داخل المجتمع تنذر بانقسامه وتصدعه، ففي تونس على سبيل المثال استهدفت الجماعات الإسلاموية المختلفة ما بين الأعوام 2011 و2014 بالعنف اللفظي والمعنوي والمادي الفنانين والنقابيين والإعلاميين والمثقفين الذين اعتبروهم لا معارضين لحكم حركة النهضة فقط بل مخالفين للتوجهات الأيديولوجية الإسلاموية ورافضين لمحاولة جعلها الأيديولوجيا المهيمنة في المجتمع أيضاً.
لعل أشد مظاهر خطر التنظيمات الإسلاموية تلك التي تتعلق بالدولة، ويقع الخطر في مستويين؛ يكمن المستوى الأول في كون موقف تلك التنظيمات السياسي لا يقتصر على معارضة التوجهات المرتبطة بطريقة تسيير الدولة أو بالسياسات العمومية في أبعادها الاقتصادية والتنموية والاجتماعية، ولا على ممارساتها التي تهدّد استقرار الأنظمة السياسية وتشيع الفوضى الأمنية، وإنما يتجاوزه إلى معارضة كيان الدولة ذاته أي الدولة الوطنية الحديثة كما نشأت في العالمين العربي والإسلامي منذ الثلث الأول من القرن العشرين بعد انهيار نظام الخلافة في مارس 1924.
فالتنظيمات الإسلاموية تنطلق من موقف مبدئي يعتبر الدولة الوطنية قد انحرفت عن طريق الإسلام وليست مؤامرة من القوى المعادية للأمة الإسلامية من جهة[21]، وتعترض اعتراضاً جوهرياً على الأسس التي قامت عليها من قبيل العقد الاجتماعي وسيادة الشعب/ الأمة والتشريعات الوضعية من جهة أخرى، فهي إذن لا تعترف بكيان هذه الدولة وهي واقعة من الناحية الفكرية والذهنية في مرحلة ما قبل الدولة الوطنية[22].
وأمّا المستوى الثاني فيظهر في سعي تلك التنظيمات المحموم إلى السيطرة على مقاليد الحكم والسلطة سواء بانخراط بعضها في العمل السياسي، أو بجنوح بعضها الآخر إلى افتكاك الحكم بالعنف المسلح أو بالانقلابات. وفي كلتا الحالتين كشفت تجارب حكم الإسلامويين في الدول العربية عما يشكله وصول حركة إسلاموية إلى الحكم من مخاطر، فالسودان عانى طوال ثلاثة عقود المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والسياسية إذ تدهورت الأوضاع المعيشية وانتشر الفقر والأمية والبطالة[23]،
وظلت البنية التحتية هشة، واندلعت حرب أهلية بسبب مسألة فرض الشريعة على مجتمع متعدد الأديان والإثنيات والتضييق على الحريات وانتهت بانفصال القسم الجنوبي عن الشمال وتأسيس دولة جنوب السودان في 9 تموز/ يوليو 2011.
وكشفت طريقة إدارة الحركات الإخوانية لشؤون الدولة في مصر وتونس بعد ما يعرف بـ “الربيع العربي” عن افتقارها إلى “رؤية استراتيجية في التعامل مع التحديات الداخلية والخارجية”[24].
ولعل أهم علامة على غياب رؤية استراتيجيّة لتسيير الدولة تسييراً عقلانياً في مشروع الحركات الإخوانية هي تعاملها مع أجهزة الدولة باعتبارها أدوات تنفيذية مسخّرة لخدمة مشروعها السياسي والاجتماعي، وهو مشروع يمكن اختزاله في مصطلح “الأخونة” أو “الأسلمة”، أي إن إدارتها للدولة إدارة قائمة على خلفية أيديولوجية تفتقد أي طابع عقلاني يراعي مصالح الدولة استناداً إلى معطيات وضعها الداخلي والخارجي. فكان همها فرض سيطرتها على تلك الأجهزة وتطويعها لخدمة أهدافها الأيديولوجية، ولم تأخذ في الحسبان إمكانية التعارض بين مصالح الدولة وتلك الأهداف.
وفي هذا المضمار يقول أحد الباحثين عن طريقة صنع القرار داخل حركة الإخوان المصرية عند تسلمها السلطة “كانت عملية صنع القرار لدى الإخوان تأثرت بعمق بالاعتبارات الأيديولوجية وبالحسابات الانفعالية قصيرة المدى التي تفتقد التحليل الاستراتيجي المستند إلى مبدأ التكلفة والفوائد.
كان الوصول إلى السلطة بمنزلة “نهاية التاريخ” للجماعة، ما أدى إلى تهميش مرونتها ونفعيتها البراغماتية الشهيرة”[25]. ولقد كانت محكومة في ذلك بمفهوم “التمكين” إذ تصورت أنها بوصولها إلى سدة الحكم قد بلغت المرحلة التي تخول لها أن تهيمن على أجهزة الدولة وتسخّرها لتحقيق مشروعها في إقامة الدولة الإسلامية ونظام الحكم الإسلامي وفي فرض نموذجها المجتمعي وفق تصوراتها وتأويلاتها المخصوصة.
وفي الجملة تكشف تجارب الإسلاميين في الحكم في المنطقة العربية عن صعوبات جمة في طريقة إدارتهم لشؤون الحكم والدولة سياسياً واقتصادياً، ويعزى ذلك إلى غلبة البُعد الأيديولوجي على مشروعهم.
وبات من الواضح أن “الأسلمة” لا يمكن أن تكون برنامج حكم صالحاً لإدارة شؤون دول ومجتمعات متنوعة في تركيباتها وفي قواها الاجتماعية الحية، بل إنها تمثل تهديداً للدولة في كيانها وسلامتها وللمجتمع في استقراره وانسجامه.
ثالثاً: في الاستجابة لتحدّي الإسلاموية وخطرها
تحتاج الاستجابة لمخاطر الإسلاموية وتحدياتها إلى مقاربة شاملة ضمن رؤية استراتيجية، بما يعنيه مفهوم الاستراتيجية من دلالة على استخدام موارد القوة ووسائلها بطريقة متناسقة ومتكاملة من أجل دعم مصالح الدولة والمجتمع وتحقيق أهدافها[26].
وتأخذ هذه المقاربة في الاعتبار تنوع مخاطر الإسلاموية ومصادرها من ناحية، والعوامل التي تقف وراء انتشارها وصعودها وقدرتها على الاستقطاب من ناحية أخرى. فالاستجابة ليست محصورة في رد فعل ظرفي محدود في الزمان والمكان، بل تعني الفعل المحمول على معنى المواجهة والتصدي، وهو فعل عقلاني تحكمه استراتيجية موجهة نحو حماية المجتمع والدفاع عن مصالح الدولة العليا التي لا تنحصر في الأبعاد الأمنية والسياسية والاقتصادية فقط، بل تشمل الأبعاد الاجتماعية والثقافية أيضاً. وهذا يعني أن الأمر يقتضي نزع الشرعية عن الإسلاموية من خلال خلخلة منابعها الفكرية والأيديولوجية.
فالخطر ليس في الحركات الإسلاموية من حيث ممارساتها وأعمالها فقط، وإنما فيما تحمله من أفكار تنتشر بفعل وسائل التواصل الحديثة والثورة الرقمية والانسياب المعلوماتي أيضاً، فهذه الأفكار تتشكل منها الأيديولوجيا التي تتأسس عليها ممارساتها وأعمالها وتمثل مصدر “قوتها الناعمة” التي إن لم يقع التصدي لها ومواجهتها بالكيفية المناسبة ستبقى خزاناً منه تغترف تلك الحركات ويستمر تناسلها، وعامل جاذبية به تستقطب الأنصار والأتباع.
ونكتفي في حدود هذه الدراسة بالإشارة إلى النقاط الأساسية لهذه المقاربة، وهي تحتاج حتماً إلى أن تكون ثمرة جهد جماعي لباحثين في اختصاصات متعددة وضمن مراكز بحث متخصصة تقدم المشورة لمتخذي القرار. وفيما يلي أبرز هذه النقاط:
يتطلّب الحد من مخاطر التنظيمات الإسلاموية إقامة نظام سياسي يعتمد مبادئ الحكم الرشيد Good Governance، وهي مبادئ الإنصاف والمساواة والمسؤولية وسيادة القانون والمشاركة والتعددية والشفافية والإدارة السليمة وتهدف إلى تلبية احتياجات المواطنين وتحقيق التنمية الشاملة المستدامة وتوزيع فوائدها ومنافعها بشكل عادل ومتساوٍ وسد الفجوات بين الطبقات والفئات الاجتماعية والقضاء على جيوب التمييز بينها، فيشعر كل فرد بأنه يتمتع بكل ما يتاح في المجتمع من فرص على قدم المساواة وفي نطاق التكافؤ مع غيره من الأفراد، وأنه ليس مستبعَداً من تيار المجتمع الرئيسي.
ووفق هذا المبدأ تتوافر للفئات الأكثر هشاشة الفرص لتحسين وضعياتها والتمتع بالرفاهية. وفي المحصلة، إن الدول التي تلتزم بقواعد الحكم الرشيد تكون أقل عرضة لمخاطر العنف والفقر التي منها تتغذى التنظيمات الإسلاموية، وأقدر على حماية مجتمعاتها من التطرف والتشدد والتعصب، وأكثر جاهزية للاستجابة بشكل ناجع وفعال للمخاطر التي قد تحدق بها.
تنهض الاستجابة لتحديات أيديولوجيا الإسلام السياسي وتهديداتها على أربعة مقومات وهي: تجديد الفكر الديني، ومراجعة وضع المؤسسات المتخصصة في الشأن الديني، وإصلاح مناهج التربية والتعليم، ومراجعة حضور الخطاب الديني في وسائل الإعلام وشبكة الإنترنت. ويرمي العمل على هذه المقومات إلى تحقيق جملة من الأهداف هي: جعل قضايا التجديد والتحديث والإصلاح تحتل مركز الثقل في النقاش العمومي والبوصلة الموجهة له. وإخراج “الديني” من حيز التوظيف الأيديولوجي والسياسي، وإعادة الاعتبار إليه من حيث وظائفه الروحية والأخلاقية في بناء شخصية الإنسان. وعقلنة التعامل مع الشأن الديني، وتحويله من عامل فرقة وتقسيم في المجتمع مثلما توظفه جماعات الإسلام السياسي إلى عامل انسجام وتواصل.
يستحضر تجديد الفكر الديني مفهومي القطيعة والتجاوز، ويقوم على التمييز الضروري بين الدين في حد ذاته، والدين مثلما يتجلى في فهم البشر، وكما يتمثلونه في فكرهم وفي خطابهم. ويجدر أن نلفت الانتباه إلى المسافة الفاصلة بين هذين المستويين، فالغالب في المستوى الأول التركيز على المبادئ والقيم ذات الشحنة المتعالية التي تتجاوز حدود الزمان والمكان، وهي مبادئ وقيم وجودية تضفي معنى على الحياة وتوفر حلا لمعضلات المبدأ والمصير و”تجعل من الدين الإجابة عن حاجة نفسية كونية”[27].
ويطغى في المستوى الثاني البُعد التاريخي البشري، فعقول البشر وتمثلاتهم وتعبيراتهم وأعمالهم محدودة بحدود البيئة بأبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والذهنية، وبالظروف الزمانية والمكانية.
ولانتماءات البشر الاجتماعية والمهنية ولما يملكونه من أدوات فكرية تأثير في رؤية العالم الموصولة بدينهم[28].
وتكمن أهمية هذه المراجعة في أنها تتيح التعامل بحس نقدي – نابع من أن المسلم المعاصر حرّ ومسؤول- مع كل ما يطرح من قضايا وموضوعات متصلة بالدين والخروج من حالة التسليم والتصديق لكل ما يقال ولكل من يتكلم باسم الدين.
تمثل مراجعة مناهج التربية والتعليم ركناً أساسياً في المقاربة المقترحة للاستجابة لتحديات الإسلام السياسي باعتبار التربية والتعليم مصدراً رئيسياً من مصادر القوة الناعمة، وبه تقاس درجة التمدن والتقدم والرقي.
وتضطلع المدرسة في مراحل التعليم كافة بدور أساسي في تجديد الفكر الديني وتأهيل الإنسان في العالمين العربي والإسلامي ليعيش عصره ويواجه ما يطرحه عليه من تحديات راهنة ومستقبلية.
وتنهض عملية التأهيل على مراجعة جذرية لمناهج التربية والتعليم وبرامجهما “لأن التربية الحسنة هي حقاً المنبع الذي يصدر عنه كل الخير في العالم”[29]، وهو الكفيل بإكساب الإنسان القدرة على التأقلم مع روح عصره والتفاعل مع معطياته المعقّدة والانزياح به عن منطق التقليد والانغلاق إلى منطق الانفتاح والإبداع، والموصل إلى استشراف المستقبل[30].
ومؤدى هذه العملية إصلاح الذات من الداخل وتأهيل الإنسان ليكون متفتحاً تواقاً للتواصل السلمي مع الآخر والاستفادة من منجزاته بعقلية النجاعة والاقتناع. وأضحى اليوم لازماً، أن نخضع دراسة تراث الإسلام للمناهج العلمية الحديثة، وأن نضع جانباً تلك الطرق التقليدية المعتمدة على الحفظ والتلقين والتي تعكس تصوراً للمعرفة يقول بكمالها وبكونها مجموعة من المعارف المنجزة الجاهزة التي يقتصر دور المتعلم على تحصيلها ودور المعلم على نقلها نقلاً أميناً. فالمطلوب اليوم إعادة النظر في أشكال بناء المعرفة وأساليبها قبل الاهتمام بتلقينها في شكل معارف جاهزة. فمن الضروري أن تركز هذه المناهج على تجذير الحس التاريخي وترسيخ الوعي النقدي والنزعة العقلانية، وهو ما يساعد على الابتعاد عن الأفكار الخرافية ونزع الأسطورة ورفض التقليد والوصاية وتجنب الوثوقية والبداهة والإطلاقية والانتقال من المعرفة الخبرية الإخبارية – تلك المعرفة القائمة على سلطة الخبر التي تكرس الوصاية والاتباع والتقليد – إلى المعرفة الاختبارية القائمة على الاختبار بما يعنيه من تنمية مهارات فحص الأدلة وتمحيص الوقائع والروايات والأحاديث والأقوال وتحليلها وتفكيكها، وهو ما من شأنه أن يجنب الناشئة الوقوع تحت تأثير السلطة التي تمثلها مرجعية “من قال” وهم مسلوبو الإرادة لا حول لهم ولا قوة ولا قدرة على التمحيص والتدقيق في “ما قال”، ويتطلب ذلك الاعتماد على علوم الإنسان والمجتمع الحديثة وعلى الخصوص علوم التاريخ والاجتماع والنفس والأنثروبولوجيا واللسانيات، دون إغفال الفلسفة باعتبارها تغرس الروح النقدية والارتقاء بملكة التفكير والتحليل وبتنمية القدرة على التعايش مع الآخر وإثراء التجربة الإنسانية والتكيف مع تعقيدات الواقع وبفتح آفاق المعنى على ما هو جديد ومدهش إلخ[31].
وهذه كلها علوم ضرورية في مراحل التعليم المدرسي والجامعي كافة مهما تكن التخصصات. وتبرز من بين أهداف إصلاح مناهج التعليم والتربية توطين جملة من القيم الحديثة وإدخالها لتصبح جزءاً من البنية الذهنية ومكوناً من مكونات الشخصية القاعدية؛ وهي قيم الحرية والمساواة والاعتراف بالآخر وحق الاختلاف والتسامح، وهي القيم التي تهيئ الفرد لأن يبتعد عن نزعات التعصب والانغلاق والإقصاء، ولأن يحترم التعدد والتنوع ويتعايش مع غيره المختلف عنه، ما يمكنه من بناء شخصية مستقلة تنأى به عن سلوكيات التقليد والمحاكاة. ومن المهم التأكيد على أهمية إحكام التنسيق بين المدرسة والهيئات الوسيطة الأخرى في المجتمع على غرار وسائل الإعلام والجمعيات والمنظمات حتى لا يكون الفرد عرضة لتأثيرات متباينة في خلفياتها وأهدافها مما يشوش عليه اختياراته.
خاتمة
طرحت هذه الدراسة إشكالية الإسلاموية في وجهيها المتلازمين الأيديولوجيا والتنظيم من منظور مفهومي التحدي والخطر.
وسعت أن تبين وجاهة هذا المنظور بالكشف عن المنزلقات الخطيرة التي تمثلها أفكار الإسلاموية وآثارها الوخيمة على الحصانة الفكرية والثقافية للمجتمع وعلى آفاق تحديثه ليلتحق بركب المدنية المعاصرة، إضافة إلى مخاطر التنظيمات على الاستقرار السياسي والاجتماعي والأمني وعلى كيان الدولة ووجودها برمته.
وقد بينت تجربة ما يعرف بـ “الربيع العربي” أن تحديات الإسلاموية ومخاطرها لا تقتصر على دولة معينة بل تهم جميع الدول سواء في المنطقة العربية أو خارجها، وهو ما يؤكد الحاجة إلى تضافر الجهود للعمل بصفة مشتركة لمواجهة تلك التحديات والمخاطر.
وقد بدا لنا أن الاستجابة لمخاطر الإسلام السياسي تنهض على اجتراح رؤية شاملة تأخذ في الاعتبار العناصر السياسية والتنموية والأمنية من ناحية، وتجديد الفكر الديني والمؤسسات الدينية وإصلاح مناهج التربية والتعليم وتطوير الخطاب الديني في وسائل الإعلام وفي شبكة الإنترنت من ناحية أخرى.
إن مواجهة حركات الإسلام السياسي تتخذ وجوهاً عدة منها الأمني، ومنها السياسي، ومنها الاجتماعي الاقتصادي، ومنها الفكري الثقافي. وتبدو المواجهة الفكرية والثقافية ورهاناتها، في رأينا، أهم الوجوه وأخطرها.
وفي المحصّلة أن إلحاق الهزيمة بالإسلام السياسي لا يكون في ساحات المعارك فقط – إذا ما اتجهت بعض حركاته وتنظيماته إلى العنف – وإنما يكون أولاً وقبل كل شيء في ساحات الفكر وفي العقول، ولعل أوكد الأمور وأجلها حفظ منزلة الدين واستعادة وظائفه الروحية في مستوى الأفراد وتخليص الإيمان – وهو عالق بالإنسان نفسه يحمله على إدراك قيم الخير والجمال والحق في ذاته وفي الوجود – من توظيف الإسلاموية الأيديولوجي الذي يرهنه لخدمة مشروع سياسي يهدف إلى التسلط والتحكم، والعمل على تكوين الإنسان المسلم وتنشئته على نحو يشعره بأريحية الانتماء إلى الإسلام وإلى قيم العصر الحديث في الآن نفسه.
المصدر : مركز تريندز للبحوث والاستشارات