كريتر نت – متابعات
قررت وزارة الأوقاف المصرية معالجة الجمود في الخطبة الموحدة بالمساجد لتكون أكثر واقعية، بحيث يُسمح للأئمة بالاجتهاد وتخفيف الالتزام بالنصوص المكتوبة للحد من استقطاب السلفيين للمصلين عبر مساجد صغيرة تنتشر في بعض المناطق، يؤسسها مواطنون بعيدا عن سيطرة الجهة المنوط بها رقابة ومتابعة دور العبادة، وهي وزارة الأوقاف.
وقرر أسامة الأزهري وزير الأوقاف الجديد تطوير الخطبة الموحدة، بحيث يتم وضع هدف عام لها، تتفرع منه عناصر، وتكون الخطبة المكتوبة أقرب “نموذج استرشادي”، وعلى الخطيب النظر للهدف العام للموضوع، والسماح له بالاجتهاد بطريقته وأسلوبه، ويكون اللجوء إلى الخطبة الموحدة في القضايا الملحة.
وجاء هذا التحرك عقب اتهامات طالت القائمين على الخطبة الموحدة وأنهم سبب رئيسي في جمود الخطاب الدعوي وتأميم المنابر وعدم توافق ما يُقال عبرها مع الواقع المجتمعي، لأن الكثير مما تطرحه غير مفهوم ولا يرتبط باحتياجات الناس، ويفتقد المضمون إلى الحد الأدنى من التنوع، مع أن خطب المساجد يجب أن تتناول القضايا التي تهم كل منطقة، ولا يعيش الإمام منعزلا عن هموم الجمهور.
ولم يكن يُسمح لأي خطيب مسجد بالخروج عن النص أو التحرر الفكري وانتقاء موضوع بعينه، أو الاجتهاد في قضية يتحدث عنها، ما أضعف مواقف الكثير من الأئمة وجعلها تنحصر في تفنيد حجج المتشددين، إذ يتحركون وفق خطط تضعها وزارة الأوقاف ولا يحيدون عنها، وإلا تعرضوا للمساءلة وربما الإقصاء والتجميد الوظيفي.
وتكمن المشكلة في أن الخطاب الدعوي بالمساجد لم يصل إلى الأجيال الجديدة بالطريقة التي تجعلهم محصنين عن الميل نحو تيارات أخرى تجيد اللعب على وتر هؤلاء، ومدهم بمعلومات دينية حول قضايا تمس همومهم الحياتية، مع أن الشباب في حاجة ملحة لمن يشبع ميوله الدينية، وهو ما تطرقت إليه وزارة الأوقاف مؤخرا.
واقتنع قادة الصف الأول داخل المؤسسة الدينية بأن الالتزام الحرفي من الواعظ الديني بخطاب محدد، يُلغي دور المساجد في تحقيق الأهداف الدعوية ومواجهة أصوات متشددة تجيد اللعب على وتر التدين، ما عجّل بإعادة النظر في الخطبة الموحدة وعودة الاعتبار إلى الأئمة ليكون لهم دور وشخصية بدلا من تحريكهم بورقة مكتوبة.
وتوحي الإستراتيجية التي أقرتها وزارة الأوقاف أنها أرادت القبض على العصا من منتصفها، بحيث لا تكون هناك حرية مطلقة للأئمة في انتقاء موضوع الخطبة، ولا وضع قيود مطلقة عليهم في طريقة عرض الموضوع، وبذلك تُجنب نفسها الوقوع في فخ اختيار قضايا قد تثير منغصات سياسية، وتعيد تحسين صورة الأئمة.
ويتململ بعض المواطنين من الخطبة الموحدة، لأنها تتطرق إلى قضايا غير ملحة، ويتم التركيز على موضوعات ذات أبعاد اجتماعية بجذور سياسية، مثل دعم التنمية، ومساندة أجهزة الدولة، وتجييش الرأي العام خلف صانع القرار، مع أن الناس بحاجة مستمرة إلى حسم قضايا جدلية يثيرها متشددون بنصوص فقهية قديمة.
ويدعم فريق عريض من المصريين وجود خطبة موحدة تقوم بدور فعال في نشر وسطية الإسلام وضبط السيولة في بعض المساجد عبر فصائل دينية بعينها، لكن ابتعاد موضوع الخطبة وعدم الاجتهاد في طريقة عرضه دفعا الناس للعودة إلى شيوخ السلفية الذين يجيدون التسلل إلى عقولهم والإجابة عن أسئلتهم.
المشكلة تكمن في أن الخطاب الدعوي بالمساجد لم يصل إلى الأجيال الجديدة بالطريقة التي تجعلهم محصنين عن الميل نحو تيارات أخرى تجيد اللعب على وتر هؤلاء
ويبدو التغير النسبي في نظرة وزارة الأوقاف لملف قضية الخطبة محاولة لحسين النظرة السلبية حول أداء الدعاة والأئمة والخطباء، لأن محاربة التطرف الفكري لن يكون بحصار مضمون الخطبة وحظر الخروج عنها باجتهاد شخصي، بل بترك الأئمة يجتهدون بنصوص عصرية، المهم أن تصل الرسالة بطريقة سهلة وبسيطة.
وما تزال المعارضة الأكبر للخطبة الموحدة ظاهرة بوضوح في المناطق التي يتواجد فيها السلفيون، على غرار بعض القرى والنجوع والمناطق الشعبية والحدودية، وهؤلاء اعتادوا تقديم أنفسهم كبديل عمن يصفون بـ”دعاة الحكومة”، وهم أصحاب لغة الخطاب الرسمي على المنابر الذين يقولون ما يُملى عليهم رسميا.
وقال الباحث المتخصص في شؤون الجماعات المتطرفة منير أديب إن السماح للأئمة بالاجتهاد في المساجد هو جزء من الحل، لكن المهم انتقاء موضوعات تلامس الاحتياجات الفعلية للناس، وأي جمود سوف يصب في صالح العناصر المتطرفة فكريا، وما يصلح لمنطقة شعبية لا يتلاءم مع سكان بيئة عصرية، بالتالي من الضروري مع اجتهاد النص مراعاة خصوصية رواد المساجد.
وأضاف لـ”العرب” أن الفكر السلفي تراجع أمام تحضر الأجيال الصاعدة وتحررها من التشدد بشكل كبير، ما يجب البناء عليه لتكون موضوعات الخطبة في المساجد مقنعة للإمام قبل المواطنين، وكي لا يتحول الأمر لمجرد قارئ لما يصله، والاستمرار في فرض كلام مكتوب قد يثير شكوك البعض في وسطية الإمام، ولذلك الاجتهاد مطلوب بتكريس مصداقية الخطاب الدعوي.
وتأمل وزارة الأوقاف المصرية أن يكون السماح للأئمة بالتحرر في طريقة عرض الخُطب، بداية لاستعادة جمهور المساجد الصغيرة والزوايا التي يسيطر عليها سلفيون، وتكون مكتظة بالمصلين ويفترش الناس الشوارع حولها بشكل يستدعي الدهشة، لكن هؤلاء يعنيهم الاستماع إلى محتوى دعوى مرتبط بشواغلهم.
الإستراتيجية التي أقرتها وزارة الأوقاف توحي بأنها أرادت القبض على العصا من منتصفها، بحيث لا تكون هناك حرية مطلقة للأئمة، ولا وضع قيود مطلقة عليهم في طريقة عرض الموضوع
ويدعم كثيرون عدم منح الحرية المطلقة لإمام المسجد في طرح وجهات نظره على الناس، مع استمرار تدخل المؤسسة الدينية في تحديد موضوع خطبة الجمعة، بحيث يكون بها قدر معقول من التنوع والتناغم مع متطلبات الناس الحياتية، وعدم اختيار قضايا روتينية تثير احتقان رواد المساجد وتجعلهم ينفرون منها ويلجأون لزوايا سلفية.
وتدافع تلك الشريحة عن إمساك وزارة الأوقاف بزمام الأمور داخل المساجد لاستمرار منع تسلل الخطاب المتشدد من خلال منابرها، لكن الاعتراض أن يصل الأمر حد التأميم الكامل، والمفترض وجود بديل أكثر عقلانية ويتم تطوير أداء الدعاة والأئمة والخطباء بما يتناسب مع مقتضيات العصر، ومنح الناس استقلالية نسبية قائمة على الاجتهاد المنضبط الذي لا يخدم أجندة بعينها.
وهناك شبه توافق بين قادة المؤسسة الدينية، والحكومة أيضا، على أن المجتمع أصبح في حاجة ماسّة إلى خطاب مستنير يتناسب مع احتياجاته الدينية والحياتية، ما يتطلب الكف عن الالتزام بخطاب مكتوب وموحد لم يعد مناسبا مع انخفاض منسوب الوعي الثقافي لأغلب القضايا الراهنة ما يستدعي إعادة النظر في الخطب والسماح بالاجتهاد.
وما يسرّع من وتيرة تجديد الخطاب الدعوي على المنابر أن أسامة الأزهري وزير الأوقاف لديه رؤية وسطية لمسألة الخطبة، حيث لا يقتنع بأن توحيدها يصلح لجميع الأقاليم المصرية، ويميل إلى أن تكون لكل إقليم خطبته التي تتوافق مع ظروف سكانه، لدرجة أنه يميل للاستعانة بالمراكز البحثية والجنائية والاجتماعية المتخصصة في تحديد موضوعات الخطب.
وتظل العبرة في ضبط الخطاب الدعوي وتجديده، أن تكون هناك قناعة لدى الحكومة بإحياء الاجتهاد المنضبط واختيار من يقومون بتلك المهمة بكفاءة، مع مراجعة إدارة وتنظيم المساجد وفق رؤى وقناعات بعينها، لأن المصريين لم يعد لديهم قبول لسماع ما تريد الحكومة قوله لهم، وإلا سيظل استفتاء المتشددين حول شواغل الناس ثقافة تجلب منغصات سياسية معقدة.
المصدر : العرب اللندنية