الباحث والناقد الفني/ عصام خليدي
قدم الفنان الكبير محمد سعد عبدالله في (أخر البوماته الغنائية في بداية التسعينات) ثلاثة أعمال جديدة متميزة قامت بتنفيذها الفرقة الموسيقية (الأوركسترالية) في مصر العربية من كلمات الأديب والشاعر (القمة) أحمد الجابري بعنوان 1- جوال 2- ليش أستويت حساس 3- من زمان أشتي أقولك ، وفي الواقع الحديث عن هذه التجربة الفنية المتفردة للعملاقين جديرة بالبحث والدراسة لأسباب كثيرة أهمها أن (اغنية جوال) تبين وتوضح أهمية دور الفن والأدب والثقافة في طرح ومناقشة ومعالجة هموم ومعاناة وقضايا المجتمع المختلفة ، بالإضافة لروعة وجمال القصيدة التي تعتبر موضوعاً إنسانياً هاماً تطرق إليه وتناوله الأستاذ الأديب الشاعر الغنائي أحمد الجابري في فترة الإغتراب بإقتدار وصياغة لغوية راقية المعنى والمبنى وصور شعرية أخاذة لامست وجدان ومشاعر كل من أستمع إليها وكان كعادتنا به وديدنه معلماً وأستاذاً في إختياراته الإنسانية والإبداعية .
أما فيما يتعلق بالجانب الغنائي الموسيقي (لأغنية جوال) فإنها من وجهة نظري (تحفة فنية) قلما نجد لها (شبيه أو مثيل) ،
إذ أنها تُعد بمستواها الموسيقي والغنائي (منعطفاً غنائياً موسيقياً هاماً ودقيقاً في مسار تجربة الفنان محمد سعد عبدالله بشكل عام ) ، فقد فأجئنا بن سعد منذ الوهلة الأولى في أغنية (جوال) بنضوجاً (موسيقياً) واضحاً وجلياً فيه خصوبة وثراءً وإهتماماً كبيراً ولافتاً شمل أدق التفاصيل والجزئيات الموسيقية التي أستند عليها في بناء هذا اللحن البديع الذي لحنه على (مقام الراست على درجة الدو) في المذهب ثم ينتقل بنا بعذوبة ويسر بقوالبه وجمله اللحنية من مقام إلى مقام أخر في الكوبليهات محافظاً على وحدة بناء نغمي موسيقي يتجدد بأسلوب متناغم سلس رائع في غاية الترابط والتماسك ينم عن خبرة وحنكة مكنته من هذا الإشتغال الفني غير المعهود ، بدءاً بالمقدمة الموسيقية ثم الموال والمذهب ومروراً بالكوبليهات المتعددة بالإضافة للمستوى الفني الرفيع في (اللازمات الموسيقية عالية التكنيك) المصاحبة للأداء الصوتي أثناء الغناء بشكل عام ، ويمكننا أن ندرك ذلك الجهد الإبداعي الباذخ والإشتغال المتطور والمبهر بالمقدمة الموسيقية غير المصاحبة للإيقاع (الأدليب – السائب) .
ومن ثم غنائه المعبر المتسلطن والمؤثر في (الموال) وإرتكازه على الأبعاد النغمية الصوتية المرتفعة في المساحات الموسيقية التالية : الدو / المي / الفا / الري / .. وصولاً إلى (نقطة الصول في أعلى درجات الجواب) ، تتجلى قدرات (بن سعد) الفائقة في ترجمة كلمة (جوال وإعطائها طاقة وحيوية ديناميكية دراماتيكية) ومايليها في النص الغنائي المكتوب (بحرفية فنية) أرتقت بأبعادها الجمالية والحسية والروحية وصورها الشعرية البلاغية في سياقات ودلالات غنائية موسيقية راقية متدفقة فاخرة ومتنوعة يقول في مطلعها :
قلبي مع الشوق في درب الهوى جوال
وأنا مع الشوق في بحر الهوى جوال
بأمشي لأخر مدى عمري وأنا جوال
ماهمني الشوك يدميني ولا النار
جوال بأكمل المشوار .
التحليل المقامي والإيقاعي :
لُحنت (أغنية جوال) في المذهب على (مقام الراست على درجة الدو) وبها ينتقل بإنسياب نغمي مقامي إيقاعي رصين ومدروس إلى (مقام الحجاز على درجة الصول) ليعود مرة أخرى إلى (المقام الاساسي الراست على درجة الدو) وفي الكوبليه (الثالث الأخير) ينتقل إلى (مقام جديد البيات على درجة الصول) مطرزاً ومرصعاً بدايته بمقدمة موسيقية إضافية جديدة فيها من الدلالات والإيحاءات والحوارات النغمية المقامية المعبرة عن حالة السهد والحيرة والألم والحرمان مستأنفاً غنائه وسابحاً محلقاً على (أبعاد ومساحات مقام البيات) في هذه الأبيات الشعرية المؤثرة :
يااللي عيونك ليل سهرانه
ما بتنام/ تمسي دموعك سيل من شدة الالام ، ثم ينتقل (الى مقام الراست على درجة الدو) في المقطع الذي يقول فيه : جوال ما بشتكي غدر الزمان
لو جار/ جوال وعمري وانا زي الفلك دوار ، ومنه إلى ( مقام الحجاز على الصول) في هذا الشطر من الكوبليه :
ماهمني الشوك يدميني ولا النار ..، ليعود مرة أخرى إلى( المقام الاصلي الراست على درجة الدو) في نهاية الكوبليه الثالث مختتماً (الأغنية) بهذه الكلمات الشعرية الرقيقة والعميقة :
جوال .. بأكمل المشوار .
وأستخدم مبدعنا بن سعد في هذه الأغنية (إيقاع الرومبا المقسوم 4/4) ، ولا يفوتني الإشارة والتأكيد على أهمية اللازمات الموسيقية في هذا اللحن (غير المتوقعة والخارجة عن المألوف) التي كان لها حضوراً فاعلاً خدم اللحن بشكل مميز جذاب خاصة في المقطع الثالث الذي يقول فيه ويحكي شاعرنا المرهف أحمد الجابري بقصيدته وكلماته المعبرة عن سنوات إغترابه الطويلة الإجبارية والقهرية في المملكة العربية السعودية (جدة) بعيداً عن وطنه وأهله ومحبيه ومعشوقته الأبدية (مدينة عدن) التي أحبها وتغنى بمفاتنها وسحرها وجمالها وطيبة ناسها وأهلها وظل يعشقها حتى الثمالة، أستطاع (بن سعد) صياغة الكلمات والمفردات والمعاني في قصيدة (الجابري) بحالة إبداعية (إسثنائية) توحدت وتمازجت فيها الروئ الفكرية والعاطفية والإنسانية إلى درجة (الإنصهار) فقدما معاً للجماهير اليمنية والعربية عمل فني وأدبي غنائي موسيقي متكامل متفرد أتسم بالصدق والشفافية الممزوجة بالشجن واللوعة والحنين المتدفق المنهمر سريانه نغماً صافياً رقراقاً يلامس شغاف القلوب .
وإليكم مقاطع الكوبليه الثالث :
يااللي عيونك ليل سهرانه مابتنام
تمسي دموعك سيل من شدة الألام
جوال مابشتكي غدر الزمان لو جار
جوال وعمري وأنا زي الفلك دوار
ماهمني الشوك يدميني ولا النار ،
جوال .. بأكمل المشوار
وللأمانة نجح الأستاذان أحمد الجابري ومحمد سعد عبدلله في تصوير و تجسيد قسوة ومعاناة ومرارة (الإغتراب أثناء تواجدهما خارج الوطن) فالمستمع المرهف المتذوق والمتأمل لكلمات ومفردات ( سهرانه مابتنام) ، (من شدة الألام) ، ( جوال) ، ( دوار ) ، ( من غير ماء أو زاد ) ، ( بأكمل المشوار ) ..
في سياقاتها وبناءاتها اللغوية الأدبية البلاغية والموسيقية الغنائية سيشعر ويلمس العناية الفنية الفائقة المتجددة والمغايرة في إطار النص الغنائي المكتوب المقروئ والملحون المسموع المحبوك والمشتغل بمعالجة إبداعية ثرية غنية عميقة الأثر أختزلت وتضمنت بين ثناياها مايحرك الأحاسيس والمشاعر والافئدة والقلوب (فيبكيها) .
بالمناسبة هذا العمل الجميل والرائع لم يحظى إعلامياً بما يستحقه من الإهتمام (ولم يعرض ويبث في الفضائيات اليمنية) وأجهزة الإعلام التلفزيون والإذاعة في عدن وصنعاء رغم تسجيله بطريقة حديثة نفذها المخرج المبدع جميل علي عبيد تلفزيونياً على أكمل وجه وصورة منذ وقت طويل ولكن السؤال المهم…؟!
من يستطيع أن يدرك قيمة ومستوى هذه الأعمال الفنية الخالدة..؟!
التي جاءت في الزمن الضائع زمن غياب وإنعدام المعايير والمقاييس الإبداعية وإفساح المجال في ( الفضائيات) للأدعياء أشباه المطربين الذين أفسدوا الذوق و المزاج الفني العالي والرفيع .
رحم الله (فناننا الغائب الحاضر بن سعد ظلم حياً و ميتاً)، ولم تلتفت إليه الجهات المختصة والرسمية ممثلة بوزارتي الثقافة والإعلام رغم مناشداتنا وصرخاتنا في الصحف أثناء الأزمات النفسية والمعنوية الصحية والجسدية الصعبة والمؤلمة التي تعرض لها في السنوات الأخيرة من حياته وظل يعاني من تبعات وويلات مرارة وقسوة وشدة وطأة المرض والإحباط والإكتئاب بسبب التجاهل والنسيان والتغييب والتهميش والجحود والنكران وإنعدام الوفاء والعرفان ، (عاش معجم الغناء اليمني بفن الأصالة والمعاصرة محمد سعد عبدالله) فقيراً لايملك إلا رصيده الفني الراقي والضخم ومحبة عشاق فنه من الجماهير العريضة في الداخل والخارج ، لم يكن باحثاً عن الشهرة والمال والجاه والمناصب ، كان فقيد الغناء اليمني (النموذج والإستثناء) بزهده وتعففه عن الصغائر في سلوكياته وأخلاقياته الفنية والإنسانية، وقدم بمسيرته الفنية الزاخرة والحافلة للأجيال المتعاقبة أروع وأعظم العبر والدروس التي عمقت ورسخت مفاهيم ومعاني التواضع والطيبة والبساطة وروح التضحية والإيثار ونكران الذات والتشبت بالمبادئ والقيم الجمالية والإبداعية والإنسانية والتفاني والإنتماء والولاء للوطن ، عاش (بن سعد) فناناً راهباً متعبداً في محراب الوطن رافضاً كل الإغراءات والشهرة والمال في الخارج، فترجم كل تلك الصفات والمميزات في مشوار حياته الغنائي الموسيقي بحرفية ومهنية وفذاذة جسدها عن طيب خاطر وقناعة مطلقة في أنصع وأبهى تجلياتها في هذه المقولة (الفقر في الوطن غربة والغنى في الغربة وطن) ،هكذا حال مبدعينا العظماء صناع السعادة والمحبة والفرح والأمل والتسامح ومن هم على شاكلة (بن سعد والجابري) يمنحون شعوبهم وأوطانهم (الحضارة والحياة ) ولا يبتغون (ثمناً) لماقدموه من عطاءات وإبداعات ( وشمت على صفحات وسجلات الزمان) ..
ختاماً :
لايسعني إلا أن أدعو كل عشاق الفن والطرب الأصيل لسماع (الألبوم الغنائي جوال) والإستمتاع بعوالم السحر والجمال .
أبيات مختارة من (كوبليهات أغنية جوال) ..
ليه النوى ياهوى غربة سفر وأبعاد
فيه الضمأ والجوى من غير ماء أو زاد
جوال مابشتكي غدر الزمن
لو جار
جوال عمري وأنا زي الفلك دوار
ماهمني الشوك يدميني ولا النار
جوال .. بأكمل المشوار