نوران بديع
صحفية سورية
لقد أدى فهم الجماعة للسياسة ونظام الحكم إلى عملية تشويه شديدة للمنظومة المعرفية التي تتبناها هذه الحركات، فأصبحت رؤيتها للعمل السياسي – أو لنظام الحكم – تقوم على معادلة، هي في جوهرها خليط من مفاهيم تدعي أنها الإسلام، مع مفاهيم غربية معاصرة لكنها مشوهة. وقد أنتجت هذه المعادلة واحدة من أسوأ صور الممارسة السياسية في التاريخ الإسلامي، إذ إن إيمان هذه الحركات بأن السياسة هي القوة أو السلطة أو النفوذ أو علم إدارة الدولة، واعتمادها على مصادر المشروعية الإسلامية، كل ذلك أدى بها إلى الوصول إلى مرحلة من السُّعَار الشديد للوصول إلى الهيمنة على مفاصل الدولة، وإلى درجة مُعَقَّدَة من الاستبداد، خصوصاً الاستبداد الفكري الذي يقوم على افتراض امتلاك الحقيقة، ومن ثم نزع المشروعية – بل شرعية الوجود – عن المخالفين، ونفيهم خارج المجتمع، أو خارج الوجود نفسه في بعض الحالات.
الكتاب، وعنوانه “مفهوم الدولة عند جماعة الإخوان” الصادر مركز تريندز للبحوث والاستشارات في أبوظبي، ويعد الكتاب الحادي عشر من “موسوعة الإخوان المسلمين”، أبرز كيف ناصبت جماعة الإخوان المسلمين الدولة الوطنية العربية العداء منذ نشأتها، واعتبرتها حجر عثرة في طريق وصولها إلى الحكم، وحاربت أسسها ومبادئها الحداثية، بوصفها مخالفة لأسس نوعية تَدَيُّن الجماعة، ولمبادئ هذا التَّدَيُّن التي اختصرت الإسلام فيها، وصادرته لحساب الإخوان.
ودعا الكتاب، الذي أعده الدكتور محمد عبدالله العلي (الرئيس التنفيذي ومؤسس تريندز للبحوث والاستشارات الجديد)، والباحثة نورة الحبسي، والدكتور وائل صالح، إلى عدم الانخداع بأي تَطَوٌر أو تغَيٌر على مستوى الخطاب قد يعطي الانطباع بأنّ الجماعة قد تصالحت مع هذا الكيان السياسي الحديث، وتكيّفت مع مبادئه وأسسه الحداثية.
وفي هذا السياق يقول الكاتب اليمني هاني سالم مسهور: بالعودة إلى أدبيات جماعة «الإخوان المسلمين»، وفي نظرة داخل رأس حسن البنا مؤسسها يمكن استنتاج أنّ أحد أهم ما تمثله رؤيته في تضادها مع مفهوم الدولة الوطنية العربية، هي ما يمكن وصفه بـ«الدولة الوهمية» المنطلقة من الأممية المستندة على الدين هي نقيض للدولة الوطنية، وهي إسقاط غير واقعي على التفريق ما بين عهد النبوة والتطور الإنساني الطبيعي فيما تلا العهد الأول الذي عاشه النبي الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم.
“الإخوان” ضد الدولة الوطنية
هذا الإسقاط الذي وضعه البنا في أصله خاطئ، بحسب الكاتب، في مقالة نشرها في فبراير الماضي في جريدة “الاتحاد” بعنوان “الإخوان” ضد الدولة الوطنية.
ولذلك كل ما بني عليه سيكون خاطئاً بالتأكيد. نشأة الإخوان المسلمين بكل ما يحيط بها من غموض وشبهات طرحت ما يسمى التشكيل الموازي أو البنية الموازية أو الدولة الموازية داخل الدول التي تنشط بها هذه الجماعة وتعمل على تحقيق أهدافها بغض النظر عن مصلحة الشعب أو الوطن الذي تتواجد فيه. مع هذا الاقتراب من النشأة تظهر نقطة اللاواقعية في التضاد بين الدولة الوطنية والدولة الأممية، إشكالية الجماعة ومن بعدها كل الجماعات ذات المفهوم الأيديولوجي في تعريفها للوطن.
ردة فعل البنا من بعد نهاية الدولة العثمانية وقيام الدولة التركية الحديثة خلق اتجاهاً حاداً في عقلية البنا مما دفعه لتبني الفكرة الأممية الشمولية. التضاد ليس مجرد حالة تصادمية مع حقيقة نهاية الدولة العثمانية فحسب بل لتبني كمال أتاتورك العلمانية كنمطية واقعية في بنية الدولة التركية، وهنا تحديداً تظهر أن المسألة من الواضح أنها قامت على ردة الفعل.
منذ أن تشكلت الجماعة كفكرة ثم تحولت تنظيماً سريّاً لم تتوافق مع المفهوم الوطني الذي كان في طور النشأة داخل مصر. ويرى الكاتب اليمني أنّ تبني العمليات الإرهابية في سلوك التنظيم ومنهجيته كان عنصراً من عناصر عمق ردة الفعل، التعصب عند حسن البنا دفع به إلى التطرف وتوظيف الآيات والأحاديث النبوية لبناء فكرة الدولة الشمولية. عدم القدرة على القبول بالواقع خلق عنده عمقاً شديداً في ردة الفعل شجعته الدائرة المحيطة به التي اعتبرته إماماً مما جعله يرى أنّ عملياته ضد الدولة الناشئة المصرية هي ما سيرسخ فكرة الدولة الشمولية التي يعتقد بها حدّ الإيمان، زاد من ذلك أنه وجد في البيعّة ما أشبع ذاته المندفعة في الانتقام.
ويمضي هاني مسهور في مقالته: رفض للقبول بالواقع امتد من بعده بعقود عندما أعاد سيّد قطب إنتاج الفكرة الإيديولوجية وجعل من الحاكميّة شرطاً من شروط الإسلام، والأكثر من ذلك أنّه اعتبر الوطن «حفنّة من تراب عفن»، وهنا تبدو أكثر أن الروح الناقمة الرافضة للقبول بواقعية الدولة الوطنية تعمّقت مع توسع نطاق التنظيم في المنطقة العربية. كما أنّ التصادم الحتمي كان عنيفاً مع الكيان الوطني من بعد ثورة الضباط الأحرار في يوليو 1952، حالة التصادم صنعت المظلومية، وهي أحد أكثر مسوغات الاجترار في التاريخ الإنساني ومنه نشأت المذاهب والطوائف في كل الأديان. محاولات اغتيال الزعيم جمال عبدالناصر تكرس المفهوم الأدق لرفض جماعة «الإخوان» للدولة الوطنية.
النقطة المحورية في دماغ حسن البنا
فمبدأ اغتيال عبدالناصر آنذاك من منظور الجماعة يعني إسقاط الكيان الذي لا يريدون القبول به والتعايش معه وفيه. النقطة المحورية في دماغ حسن البنا بدأت من ردة فعل غير قابلة لتصديق انهيار الدولة العثمانية الشمولية، تعميق الكراهية في وجدان المنظمين للجماعة وفرّ للبنا كما وفرّ لمن جاء بعده من رموز الجماعة الاستثمار في ذهنية المظلومية دونما استدراك للواقع. تعاقبت العقود لتنتج الجماعة جماعات والتنظيم السري تنظيمات كلها ترفض الدولة الوطنية، وتمقتها وتفضل مقاتلتها تحت شعارات متعددة.
ويرى كتاب “مفهوم الدولة عند جماعة الإخوان” أنّ كل التنظيمات الإرهابية والمتطرفة الموجودة على الساحة تقريباً قد استلهمت تَصَوُّرها حول مفهوم الدولة – القائم على أن الخلافة الإسلامية هي النموذج الوحيد للدولة – من جماعة الإخوان المسلمين، ليس فقط لكونها الجماعة الأم التي خرجت من تتح عباءتها كل التنظيمات الأخرى، وإنما لكونها أول من نَظَّرَ ورَسَّخَ لقداسة مفهوم الخلافة في العصر الحديث، بوصفه يمثل رُكناً من أركان الدين الإسلامي من منظورهم، وإن حاولت التنظيمات التي جاءت بعدها أن نُضْفِيَ بعض السمات الخاصة بها على مفهوم الخلافة، بما يوائم منطلقاتها الفكرية، وذلك بالتزامن مع محاولة تحطيم صورة الدولة الوطنية، وتشويهها سياسياً ودينياً، من خلال تصوير أنها ثمرة الاحتلال الأجنبي للعالم الإسلامي.
وتقتضي تبعات ما بعد أحداث 2011، بحسب معدي الكتاب، أن نتعامل بنسبية مع مراجعات بعض مُنَظَّري الإخوان، والمتعارضة بطبيعتها مع الأسس الفلسفية لمفهوم المواطنة، والتي قد تبدو في ظاهرها مفارقةً للأفكار المؤسسة للجماعة. ولعل تصريحات الجماعة وممارساتها مع بعض الفرقاء يصب في هذا السياق، حيث تظهر – بلا ريب – أنّ تلك المراجعات لا محل لها من الإعراب في سلوك الجماعة في المعترك السياسي.
مشروع الدولة الإخوانية
إن مشروع الدولة الإخوانية – سواءً من جهة كونه فكرة، أو من جهة كونه اختباراً وتحدّياً – يُشَكّل خطراً على أمن الدولة الوطنية الحديثة في بُعدِه الشامل، وبخاصّة البُعد الفكري. وتتعدّد وجوه تحدّي المشروع الإخواني للدولة الوطنية، إذ تشمل الأبعاد المعرفية والقيمية والأخلاقية. فالدولة الإخوانية قائمة على مفاهيم وقيم وتصوُّرات بمناهضة لتلك التي تتأسس عليها الدولة الوطنية، ومن ثم تمثّل عائقاً يحول دون استكمال قواعد بنائها لتكون دولة المواطنة، بما يجعلها تستقطب لدى الفرد مشاعر الانتماء والولاء. وقد أظهرت التجارب التاريخية تهافُت مشروع الدولة الإخوانية، إذ إنها لم تُخْفِق فحسب في الاستجابة لتطلُّعات الجماهير في التنمية والرخاء، بل إنها كشفت أيضاً عن الازدواجية في ممارستها، وما تنطوي عليه من مغالطة وخداع في موقف هذا المشروع من الدولة الحديثة، فعلى النقيض من موقفه الأيديولوجي المعارض مبدئياً لنظرية الدولة الوطنية الحديثة، فإنّه لم يجد حرجاً في الاستيلاء على جهازها والعمل على تسخيره لخدمة غايته في الحكم والتمكين.
إن مفهوم الدولة عند جماعة الإخوان المسلمين يمثل بلا شك تهديداً للمجتمع وللدولة – بل للدين ذاته – لأنه يعيد تعريف الإسلام ليستخدم تلك النسخة الجديدة من الدين )أي نمط تَدَيُّن الجماعة( باعتباره وسيلةً لتحقيق الغايات التي تحقق مصالح الجماعة. فدولة الإخوان في نهاية الأمر لا هي وطنية، ولا هي إسلامية.
المصدر : حفريات