صلاح الدين الجورشي
كاتب تونسي
لم يكن من باب الصدفة أو الاختيار العفوي أن يعنون سيد قطب كتابه الأخير “معالم في الطريق”. هذا الكتاب الذي انتقى بعض فصوله من تفسيره “في ظلال القرآن” وأضاف إليه فصولاً أخرى، لم يكن تحريره عملاً اعتباطياً بقدر ما كان فعلاً إرادياً وواعياً يعكس انتقاله من مرحلة التأملات الفكرية ذات الخلفية الإسلامية إلى مرحلة التخطيط “الاستراتيجي” الموجّه إلى الإسلاميين الحركيين في كل مكان. وهو في هذه المسألة يشبه ما قام به الزعيم الشيوعي، فلاديمير لينين، الذي اطلع على كتاب كارل ماركس “رأسمال” الذي تحدث فيه عن أزمة الرأسمالية وضرورة مقاومتها، لكنه لاحظ غياب الخطة العملية لإنجاز المهمة فكتب مؤلفه الشهير “ما العمل؟” قبل أعوام قليلة من فترة الثورة الروسية.
شتان بين ما حققه كتاب “لو مانيفست (الإعلان الشيوعي)” للقائد البولشيفي على أرض الواقع حين غيّر مجرى التاريخ خلال مطلع القرن العشرين، وكان ذلك مقدمة لتأسيس المعسكر الاشتراكي الذي صمد مدة نصف قرن، وبين ما ترتب عن كتاب “معالم في الطريق” من تشوّه فكري وانحراف عقائدي، وصراعات دموية لا تزال مستمرة، وعجز هيكيلي عن مواجهة عالم مستعصٍ عن فهم المتشددين الجدد.
لم تكن الخطوة الأولى التي أقدم عليها سيد قطب في كتابه خطوة في الاتجاه الصحيح. أراد أن يحدد المرحلة التاريخية التي يمر بها المسلمون في أعوام الستينيات من القرن الماضي حتى يؤسس في ضوئها منهجه الجديد، فلم يتوقف عند الخصائص الاقتصادية والاجتماعية، ولم يهتم بالمواقع الجغرافية التي ينتشرون فيها، ولم يشر إلى حجمهم الديمغرافي الهام، ولم يلتفت إلى العلاقات التي تربطهم بالغرب والشرق ماضياً وحاضراً. كل هذه المسائل سبق له أن تعرض لها في مقالات ودراسات حاول تحليلها عندما كانت تعني له شيئاً ما، لكن بعد التحول الذي حصل له وجد تعريفاً آخر للمرحلة التي يعيشها المسلمون اليوم، إنّها “الجاهلية” لا غير.
لم يكن قطب أول من استند إلى هذا المصطلح؛ إذ سبق أن استعمله من قبله الشيخ محمد بن عبد الوهاب في رسالة صغيرة له عدّد فيها بدع أهل الجاهلية، لكن الذي أدخل المصطلح في الصراع الراهن هو مؤسس الجماعة الإسلامية بباكستان أبو الأعلى المودودي الذي وضع المصطلح لتوصيف الحضارة الغربية، في حين أنّ سيد قطب دفع بالمصطلح نحو الملعب الإسلامي حين حوّله إلى مقياس حدّد من خلاله الطبيعة العقدية لأي مجتمع بقطع النظر عن تاريخه وهويته العامة وموقعه الجغرافي.
يقول قطب إنّ الجاهلية “ليست فترة من الزمان؛ ولكنها وضع من الأوضاع. هذا الوضع يوجد بالأمس، ويوجد اليوم، ويوجد غداً، فيأخذ صفة الجاهلية، المقابلة للإسلام، والمناقضة للإسلام”. هذا تفسير يقطع مع اعتبار المصطلح مقترناً بمرحلة ما قبل الإسلام ما تعود عليه المؤرخون. فهو عنده تشخيص لحالة مفارقة للزمان، يمكن تنزيلها على أي مجتمع وفي كل زمان ومكان. كيف يتم ذلك؟
وأضاف أنّ الناس “في أي زمان وفي أي مكان، إما أنّهم يحكمون بشريعة الله – دون فتنة عن بعض منها- ويقبلونها ويسلمون بها تسليماً، فهم إذن في دين الله. وإما أنّهم يحكمون بشريعة من صنع البشر – في أي صورة من الصور- ويقبلونها فهم إذن في جاهلية؛ وهم في دين من يحكمون بشريعته، وليسوا بحال في دين الله. والذي لا يبتغي حكم الله يبتغي حكم الجاهلية؛ والذي يرفض شريعة الله يقبل شريعة الجاهلية، ويعيش في الجاهلية”.
بناء عليه انتهي إلى القول بأنّ “العالم يعيش اليوم كله في جاهلية من ناحية الأصل الذي تنبثق منه مقومات الحياة وأنظمتها. جاهلية لا تخفف منها شيئاً هذه التيسيرات المادية الهائلة وهذا الإبداع المادي الفائق”.
هذه الجاهلية من وجهة نظر صاحب المعالم “تقوم على أساس الاعتداء على سلطان الله في الأرض، وعلى أخص خصائص الألوهية وهي الحاكمية. إنها تسند الحاكمية إلى البشر فتجعل بعضهم لبعض أرباباً، لا في الصورة البدائية الساذجة التي عرفتها الجاهلية الأولى، ولكن في صورة ادعاء حق وضع التصورات والقيم والشرائع والقوانين والأنظمة والأوضاع، بمعزل عن منهج الله للحياة، وفيما لم يأذن به الله”.
ما يميز طريقة قطب أنّ أسلوبه واضح لا غبار عليه رغم محاولات المدافعين عنه الذين بحثوا له ولا يزالون عن مخارج وتأويلات لتلطيف مفرداته، والتخفيف من وطأة أحكامه وما ترتب عنها من نتائج خطيرة.
لم يكن استعمال مصطلح “الجاهلية” سوى مقدمة أفضت إلى الترتيبات التالية:
أولاً: إخراج الأمة من دائرة الإسلام رغم تأكيد أبنائها بكونهم لا يزالون على العهد. لم يكفر قطب الأفراد، ولكنه فعل أخطر من ذلك عندما كفر أمة بكاملها. فهو بجرة قلم شطب تاريخاً كاملاً، وفصله عن مرحلة النبوة بحجة أنّ الذين جاؤوا بعده انحرفوا عنه. لقد انقطعت الأمة في السردية القطبية عن مصادرها الدينية والروحية فأصبحت معلقة توهم نفسها بكونها منتمية إلى الإسلام نظرياً في حين أنّها على أرض الواقع لا تحتكم له. ورغم أنّ جزءاً من هذه الفرضية صحيحة تاريخياً وحتى اليوم، لكنها غير كافية للحكم على الأمة بالردة والانقلاب الكامل على الدين كوحي ورسالة.
ثانياً: ربط الجاهلية بالحاكمية، وربط الحاكمية بتطبيق الشريعة كشرط من شروط إسلام الأمة شكّل معضلة لا تزال مستمرة إلى حد الآن لم يتمكن معظم الإسلاميين من تفكيكها وتجاوزها. فكل محاولة نظرياً وعملياً للتمييز بين العقيدة والشريعة ينظر إليها وإلى أصحابها بكونها أداة خطيرة لتقويض الإسلام وإعلان الحرب عليه. وبدل أن تكون العقيدة هي الإطار المرجعي والمحدد للإيمان الفردي والجماعي، يتم ربطها عضوياً بتنفيذ الأحكام الواردة في نصوص القرآن الكريم والسنّة النبوية، ويتحول هذا الربط إلى قلب للمعادلة الأصلية؛ أي إنّ تطبيق تلك الأحكام بمثابة الشرط المقدم على العقيدة والدليل على التسليم بها.
وبما أنّ العديد من هذه الأحكام غابت تدريجياً عن التطبيق الفعلي واختفت من المنظومات القانونية لمعظم الدول الإسلامية واستبدلت بأخرى عبر الاجتهاد أو الاستعارة أو تبني التشريعات العالمية التي ترتبت عن النظام العولمي، فإنّ ذلك يفسر من وجهة نظر سيد قطب إلى كفر بالإسلام، وتمرد على الله والوقوع في الشرك به، والدخول في أزمة حادة مع الذات وتجريد الأمة من سندها الثقافي والتاريخي.
ثالثاً: يؤدي مصطلح الجاهلية بهذا المفهوم والتوسع في دلالاته إلى عالم افتراضي لا علاقة له بالواقع الحي الذي يعيش فيه المسلمون يومياً، ولا يمت بأي صلة إلى اللحظة الراهنة بمختلف مكوناتها المعرفية والمادية. إذ بدل أن يساعد سيد قطب قرّاءه وأنصاره على دخول التاريخ من أبوابه، حوّلهم إلى وجهة أخرى، وهيأهم لخوض سلسة من الحروب التي لا تنتهي محورها الإيمان ضد الكفر، والإسلام ضد الجاهلية فضاع بسبب ذلك كل الجهود المهمة التي قام بها من قبل، بعد أن تبين له بكونه كان يحرث في البحر؟.
نقلا عن حفريات